ما مفهوم الانتظار؟

03-06-2019
مرتضى الحلي
ما مفهوم الانتظار؟
إنَّ مفهوم الانتظار لغةً واعتقاداً يمكن مقاربته بما ذكره صاحب المفردات في مادة نظر، فقال: النظرُ تقليبُ البصر والبصيرة لإدراك الشيء ورؤيته، وقد يُراد به التأمل والفحص، والنظرُ الانتظار، يُقال نظرته وانتظرته، قال تعالى: ((وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)) (هود: 122)، وقال تعالى:((فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ)) (يونس: 102).
(مفردات غريب القرآن - الراغب الأصفهاني: مادة نظر/ ص497- 498).
وعلى أساس ذلك المدلول اللغوي فإنَّ فَهمَنا لمعنى الانتظار لغةً ودلالةً يجعلنا قادرين على فهم معناه اعتقاداً وتعبّداً؛ لأنَّ مفهوم انتظار الإمام المهدي f، قد أخذ موقعاً رئيساً في المنظومة العقائديّة والعباديّة للإنسان المسلم والمؤمن، حتى أصبح حقيقةً شرعيّةً وعقديّةً، تحددتْ معالمها وثمراتها في عصر النبي الأكرم محمد J والأئمة المعصومين D، (فعن أمير المؤمنين علي A أنّه قال: قال رسول الله J: (أفضل العبادة انتظار الفرج).
(كمال الدين وتمام النعمة – الصدوق: ص287).
(وقالJ: (أفضل جهاد أمتي انتظار الفرج)
(تحف العقول - ابن شعبة الحراني: ص37).
فالانتظار هو الترقّب والتهيؤ للإمام المهدي، وهو وظيفة عقديّة للمُنتَظِر والمُترقّب، إذن وفق ما حدده المعصومون D لنا من معالم لمفهوم انتظار الإمام المهدي، وبيان صبغته التعبديّة يمكن لنا إدراك ماهيّة الانتظار اعتقاداً وتعبدا، وتجليه في صورة التزام الإنسان المؤمن بالعقيدة الحقّة والسلوك الصالح في عصر الغيبة الكبرى، فضلاً عن اشتمال معناه اللغوي للتفكر والاستبصار والتأمل والتفحص والترقّب الفَطِن في شأن العقيدة والتشريع والحياة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى إنَّ مفهوم الانتظار قد تمَّ بيانه قرآنيّاً، بحيث يتوضح الإرشاد الإلهيِّ به مفهوماً وتطبيقاً في هذه الحياة الدنيا، قال الله تعالى: ((هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ)) (الأنعام:158)، ((فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ)) (الأعراف:71)، ((وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ)) (يونس:20)، ((فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ)) (يونس:102)، ((وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ)) (هود:122).
وإنَّ الانتظار في مفهومه القرآني يرتبط كليّا بحتميَّة تحقق الشيء المُنتَظر وقوعاً وصدقيَّته من أول وهلة إلى يوم تحققه بإذن الله تعالى.
والملاحظ في سياقيَّة الآيات القرآنية أعلاه هو أنَّ الانتظار قد يأخذ بُعداً زمانياً في امتداده وبعداً عَقْديّاً يتجلى في صورة اختبار المُنتَظرين إيماناً.
أ- معنى التعاطي العقدي مع الامام المهدي f:
من المعلوم عقائديّاً أنَّ الاعتقاد بوجود الإمام المهدي ووجوب إمامته نصّاً ونصباً من الله تعالى هو تكليف عقلي واجب ويدخل في صميم منظومة أصول المذهَب الاثني عشري الحقّ، وهذا التكليف يفرضُ علينا في فعليّته وتنجّزه وبيانه ووصوله إلينا أن نمتثل طاعةً وسلوكاً لإمام العصر والزمان f في انتظاره وتزكيّة أنفسنا إعداداً لظهوره الشريف، وذلك من خلال الالتزام بالعبادات الشرعيّة الواجبة وتوظيفها في التمهيد والعمل بها تطبيقاً وآثاراً، كما قدّم القرآن الكريم الواجبات الشرعيّة أمراً وتكليفاً بلحاظ تحقيق آثارها وأغراضها على مستوى المُكلّف المُطيع وعلى مستوى المجتمع.
فالتعاطي العقدي مع الإمام المهدي يجعل المكلّفَ المُؤمنَ بوجهة الحضور الفعلي في وقت إمامة الإمام الغائب، من حيث يقينيّة الاعتقاد ومطابقة التكليف وموافقته للشريعة والرجوع إلى نوّاب الإمام العامّين وتقليدهم ومتابعتهم، والتفاعل الوجداني والنفسي والقلبي مع وجود الإمام المهدي وإن كان لا يُرى شخصه، ولكن الإيمان بأصل وجوده الشريف هو لطفٌ إلهي كافٍ في نفسه بتقريبنا من الطاعات وتبعيدنا عن المعاصي، فضلاً عن رعايته لنا بالدعاء والتسديد والعناية، كما ورد في المأثور الروائي.
ب- حراك الامام المهدي f في وعاء الزمن:
إنَّ القرآن الكريم قد اختزل عناءَ البحثِ والنظر لمن يروم النتيجة والإجابة القطعية عن إشكاليّة الزمان وجدلها مع العمر الشريف للإمام المهدي A بقاءً، لا من جهة الوقوع والتحقق لأفراد شملهم التعمير من ذي قبل، حيث يكون ذلك الوقوع أدلّ دليلاً على الإمكان، بل من جهة القدرة من جانب الله تعالى حدوثاً وبقاءً وإن انقطع تحقق الوقوع خارجاً لكنه لن ينقطع حقيقةً لتقهر هذه القدرة المطلقة والحقيقية كل اعتبارات الوجود وحيثياتها أثراً خاصة إذا ما تعلّق الأمر بمصلحة الدين الحق والعباد المؤمنين، وكشاهد على هذه الحقيقة الوجودية هو قوله تعالى: ((وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)) (البقرة:247).
هذه الآية الشريفة فيها من الاستظهار الدلالي والقصدي الجدي ما لا يخفى على اللبيب، حيث تنزاح ثنائية البَسطة زيادةً في العلم والجسم من أنطولوجيّة القضية الخارجية إلى أنطولوجية القضية الحقيقية لتنعقد مع عقيدة الاستخلاف انعقاداً مكينا، فما حصل مع طالوت الملك من زيادة الله تعالى له البَسطة في العلم والجسم هو لون وجودي من ألوان التعاطي الإلهي مع أوليائه الصالحين ممكن أن يتجلى هذا اللون الوجودي في سمة البسطة والقدرة والقوة والسعة العلمية والطاقة الجسمية قابليّةً وآثاراً عند الإمام المهدي.
والمعنى الصحيح والمعقول أنَّ زيادة البسطة في العلم والجسم هو أن يكون الولي الصالح والمُصطفى والمُستخلف مَحلاً لحمل أكبر سعة ممكنة وضرورية من قدرة وطاقة العلم والجسم حتى يستطيع معهما من مواجهة ضغط الآخر علماً وقدرةً وضغط الزمان وحيثياته حياتيا .
وما يهمّنا في هذه الرؤية القرآنية هو مصطلح زيادة البسطة في الجسم، والتي ممكن توظيفها معرفيا للإجابة عن إشكالية تأثير الزمان على حياة الإمام المهدي من جهة التعمير .
ولو راجعنا تفسير هذه الفقرة من الآية محل البحث لم نجد تفسيرا معقولا ومقنعا أبدا، إذ أغلب المفسرين ينحنون منحنى الإسرائيليات في تسطيح المعنى الدلالي لهذه المفردة (وزاده بسطة في الجسم) فيقولون أنها تعني تطويل الله تعالى لجسم طالوت بخلاف المعهود من طول أفراد البشر آنذاك والبالغة قدر 60 ذراعا ليصل طوله إلى 100 ذراع .
وهذا التفسير فيه من الضعف والخرافة ما لا يخفى على المدقق، خاصةً وقرائن الآيات المترابطة مع الآية محل البحث تتحدّث عن مفهوم القدرة والطاقة والعجز عن مواجهة الأعداء مما يستوجب منح القائد الصالح من مزيدٍ في القدرة الجسمية للثبات والمقاومة والانتصار .
فلا أدري لِمَ حصر المفسرون الزيادة في الطول فقط والحال أنّ طبيعة الجسم فيها بُعد العمق والعرض والزمان (البعد الرابع)؟
وما يترجح في التفسير المعقول هو أنَّ الله تعالى يزيدُ الوليَّ أو الإمامَ القائدَ في طبيعة جسمه قوةً وطاقةً كبيرةً جداً يتمكن معها من مواجهة تأثير العوامل الخارجية عليه بما فيها موضوعة الزمان .
وعلى هذا الأساس أنَّ حَراك وحركة الإمام المهدي وجوداً وبقاءً إنّما تصطف تحققاً مع اعتبارية مفهوم الزمان بالنسبة إليه، فحَراك جسم الإمام المهدي وجوداً وبقاءً لن يتأثّر بحيثّيات الزمان مع زيادة الله تعالى له في بسطة الجسم له، أي قدرته وطاقته على مواجهة تلك الحيثيات والتي تقهر مَن لا يمتلك هذه الزيادة من البسطة في الجسم .
ج- تغييب القضية المهدوية، ومحاربة حكمة الغياب:
1- إنَّ جمهور العامة انقسم على نفسه من أول الأمر في عقيدة المهدي إلى قسمين: قسمٌ آمن بولادته واسمه ونسبه، وقسمٌ اعتقد أنّه سيولد في آخر الزمان واختلفَ في نسبه وأصله وشابه القسم الثاني الزيديّة من الشيعة، وهذا الاختلاف قد أثّر كثيراً على رؤى العامة ومُفكّريها في التعاطي مع عقيدة المهدي إيماناً وتثقيفا .
2- أعتقدُ أنَّ مؤرخي الغرب ومثقفيهم يدركون جيداً خاصةً مَن أختصَّ منهم بدراسة الشرق تاريخا وعقيدةً واجتماعاً حقيقةَ عقيدة المَهدي عند المسلمين عامة (شيعة وسنة) ولكنهم لأغراض سياسيّة أو منهجيّة وعلميّة قد فسروا عقيدة المهدي بالتفسير الاجتماعي أو العاطفي والنفسي أو حتى المثيولوجي (الأسطوري)، وكشاهد على ذلك ما ذكره جولد تسيهر في كتابه (العقيدة والشريعة في الإسلام: ص93/ ط القاهرة).
يقول المستشرق اليهودي المَجري (جولد تسيهر) (1850-1921م): (إنّ عقيدة المهدي وما تنطوي عليه من آمال وأمان تظهر في بيئات التقى والورع عند المسلمين كزفرة من زفرات الأسف والانتظار يصعدونها، وهم في غمرات حالات سياسية واجتماعية لا تنقطع ثورة ضمائرهم حيالها).
فجولد تسيهر يعترف صراحة بعقيدة المهدي كفكرة واقعيّة وإن حاول
وضعها في منطقة التفسير السياسي والاجتماعي لكنها مُسلّمة كظاهرة دينية واجتماعية عند المستشرقين .
3- يجب دراسة عقيدة المهدي دراسة تعددية خاصةً بما يتواءم مع علوم العصر والحداثة، لذا قدّمتُ بحثاً في مقاربة معرفيّة بين المهدوية والأنثروبولوجيا الثقافية، وهي محاولة للتقريب المنهجي والموضوعي والمقاصدي بين ما تحمله العقيدة المهدوية من مقولات العدل والحقّ والعقلانيّة وعلوم الإنسان الحديثة لنصل إلى ملتقيات انثروبولوجية إنسانية وحتى دينية تصبُ في مصلحة الجميع .
4- إنَّ مَكمن الخلل في ضعف أو قلة التنظير للعقيدة المهدوية وأهدافها ومشروعيتها يرجع إلى عدم الاهتمام بالعلوم الحديثة التي يقبلها الغرب أو التي يشتغل عليها معرفيّاً وثقافيّا كعلم الإبستيمولوجيا وعلم الميثودولوجيا (علم المنهج) وحتى علم السيمانتك (علم الدلالة) و الألسنيات؛ وذلك لكون اللغة التعبيرية أو الصياغيّة هي أساس التواصل والتوصيل بين المفكر والمتلقي، لذا نحن بأمس الحاجة الواقعية لتفعيل المناهج الحديثة في مؤسساتنا العلميّة والدّينية لتحقيق الأغراض بسرعة وبنتيجة مقبولة.