تائِبٌ عِندَ كَعبةِ الثائِرين

14-09-2019
صادق مهدي حسن
قُبَيل بُزُوغِ الفَجْرِ عَلَيهِ بأَعوام.. خَرَجَ مِنْ أَضيقِ زِنزانَةِ في سِجْنهِ الحالِكِ الدّاجي هارِبَاً مِنْ ثِقَلِ الآثام.. هامَ عَلى وَجهِهِ على غَيرِ هُدَىً في شَتّى الفَيافِي باحِثَاً عَن مَلاذٍ أمين.. حَتى وَصَلَ هُنَا بَعْدَ مَسيرٍ طَويل فَحَطَّ رِحالَه مُنْهَكَاً مَكْدودَاً، وَلكن ما لَبِثَ أَنْ شَعَر بِراحَةٍ لَمْ يعْهَدها أَوْ يَعْتَدْها وَشَمَّ في الثّرى عِطْرَاً عَبِقاً لَيْسَ لَهُ مِنْ مَثيل.. لَمْ يَعْرِفْ أَو يُدْرِكْ بِدءاً هُوَ أَينْ، وَلكِنَّ آماقَهُ الحَيرى أَلَحَّتْ عَلَيهِ بِالسّؤال بَعْدَما أجْبَرَها شِغافُ القَلبِ المَكلومِ عَلى دَرِّ سَواجِمِ الدّموعِ كَهاطِلِ الغَيثِ الغَزِيرِ، لَمْ يَدْرِ لِمَ البُكاء ولِمَ الحَنين، وعِنْدَ التّقَصَي سَأَلَ شَيخَاً بِشَوقِ التّائِقين:
- أَينَ أنا، ما حِكايَةُ المَكان؟ هلاّ أخبرتني بالله عليك..؟!
- مَن أَنتَ يا هذا؟
- "مَنْ أنا..؟!".. إنّهُ لَحَدِيثٌ ذو شُجونٍ، وَلَعَلِّي أُنبِئْكَ بِهِ بَعْدَ حِين.. وَلكِنَّني (تائِبٌ)!.. فَهَل لي مِنْ تَوبة وَهل لَها مِنْ سَبيل؟!
- أيُّهَا (التّائِبُ): قِصّةُ هذي الأرضِ أَشْجى وَأجَلُّ، فَقَدْ بكاها سَيّدي (بَدَلَ الدّمُوعِ دَمَـاً) على امْتِدادِ قُرون.. وَإليكَ مِنها فَصْلٌ مُجْمَلُ:
في سويعاتٍ، مَرَّت كَضَوءِ البَرقِ، مِنْ صَبيحَةِ يَومٍ أحْمَرٍ (كَثُرَ واتِرُهُ وَقَلَّ ناصِرُه)، تَصارَعَ ثُلَّةٌ مِنْ أصبَرِ الأَفذاذِ عَلى البَأساءِ مِن جَيْشِ الله- سَنيِّ الإيمانِ أَعمَقَهُ.. باسِقِ الهِمَّة أَمضاها- مع شِرذِمةٍ أَضَلُّ مِنَ الأَنعامِ سَبيلاً مَمَّن (شَرى آخِرَتَهُ بِالثَّمَنِ الأوكَس) مِنْ أنصارِ مَنْ فَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ (أبي مُرّة الرَّجيمِ).. حَيْثُ كانَ للسِّلاحِ قَعْقَعَةٌ تُوقِرُ آذانَ مَنْ أَبكَمَهمُ الشيطانُ عَنْ نُطْقِ ما أَكثَرُهُم لَهُ كارِهُون، فَلَيسوا بِسامِعين، وللسّيوفِ صَليلٌ يَأخُذُ بمجامِعِ الألبابِ، ولِخُيولِ البَغيّ صَهيلٌ يَملأُ أَفئِدةَ الأطفالِ الظِّماء بالرُّعْبِ والذّهولِ.. وَسِهامُ النّاكِثينَ المارِقينَ وَرماحُهُم تَتَهاوى بِكَثافَةِ الجرادِ في مَنابِت اليُمْنِ والنَّماء.. مَلْأى بِحِقْدٍ وَغَدْرٍ قَديمٍ وُشِجَتْ عَليهِ أَعراقُ رُماتِها الأجلافِ المُسْتَذْئِبين.. فَتَناثَرت الأجْسادُ الطَّواهرُ وَالأشلاءُ الزَّواكي مُضَرَّجَةً بأوسِمَةِ الفَخرِ في أرجاءِ الصَّحراءِ لتَسْقِي بِجودٍ لا يُضاهى تلكَ الأرضَ المُجدِبَةَ بِفَيْضٍ مِنْ دِماءِ الحُرِّيَةِ وَالكَرامَة..
أيُّهَا (التّائِبُ): إنَّها الحَمْلَةُ الأولى، والبَقيَّةُ كانَتْ عاجِلاً في الأَثَر.
وَعِنْدَ الظهَّيرَةِ.. تَرْكَعُ مَنْ(تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) فتُطِيعُ بارِئَها الجَبّار الرَّحيم - ومَعَ كُلِّ قَسْوَتِها وَضَراوَتِها - َتَزولُ خَجْلَى مُعْلِنَةً وَقْتَ عَمُودِ الدِّين.. سُحْقاً لِمَن مَنَعَ الماء وتَعْسَاً! فَتَيَمَّمُوا صَعِيدَ الطَّفِّ طَيِّبًا.. قَدْ قامَتْ الصّلاة.. قَدْ قامَتْ الصّلآآآآآآة.. آخِرُ صَلاةٍ للكَواكِبِ العَطشى بِإمامَةِ شَمْسِ الثّائِرين.. تَعْقِيبها عِنْدَ ضِفافِ الكَوثَر (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ).. لِيَسْتَقوا الكَأسَ الأوفَى عِنْدَ المٌصطفى الأمين.. هَنيئاً لَهُمْ مِنْ ظامِئين..! ويَمَضَي الجَّمِيعُ فِدىً لِثأر الله والوتر الموتور، حتّى الرَّضيع أبَى إلا أَن يَكونَ مِنَ الخالِدين:
سِـرُّهُ مِنْ سِرِّ طــــــــــــه
وَعـليٌّ في الفِـــــــــــــداءْ
لا أرى في الكَونِ نَبْعَاً
حازَ هذا الارتقـاءْ (1)
وفي الخِيامِ مع الأيَامى وَالأيتام.. وَصيَّةٌ بِالعِيالِ وبالصَّبْر الجَمِيل، وَدَمْعَةُ عِشْقٍ ثَكْلى تَسِيلُ بِصَمْتٍ.. مُتَعَزِّيَةً بِعَزاءِ الله، فَهيَ لَمْ تَرَ إلا جَميلاً (هكذا تَحَدّتْ اللّبوةُ آسِرَهَا.. مُسْتَنّةً بِعُنفوانِ أبيها يَعسوبِ الدَّين).. وَداعٌ أَخير، وَداعاً أُخَتاه، وَداعاً بُنَي أبا الباقر، وَداعاً بُنَيّاتي.. سَلامي لِكُلِّ المُؤمِنين..
وَبَعْدَ أن أفَلَتِ النّجومُ بِسَيلِ النّجِيع.. وتَرَجَّلَ القَمَرُ السّاقي عِنْدَ الفُراتِ واهِبَاً عَينَه والكَفَّين.. بَقيَ العَطِشُ الغَريبُ مُشْرِقَ المُحَيّى آنِسَاً بِذْكرِ ثِقَتِه في كُلِّ كَرْبٍ وَرَجاءِه عِنْدَ كُلِّ شِدَّة.. غَيْرَ آبِهٍ بِتِلكَ الجّموع أو مُكْتَرِثٍ بالهيامِ اللَّئيم.. يُناجِي الحَبيبَ مُوَحِّدَاً وَمُلَبّيَاً حَتّى الرّمَقِ الأخير: (صَبْراً عَلى قَضائِكَ يا رَبِّ لا اِلهَ سِواكَ يا غِياثَ الْمُسْتَغيثين ما لِي رَبُّ سِواكَ وَلا مَعْبُودٌ غَيْركَ..).
لقد أَخَذَ بـ(ذي فِقارِه) مِنْهُم كُلَّ مأخَذٍ، وَلكن لا بُدَّ للشّمسِ مِنْ كُسوفٍ لِتَحْفَظَ الدِّين.. هكذا شاء مَنْ لَهُ الحَمْدُ في كُلِّ حِين، واقْتَرَبَتْ عُسلانُ الفَلواتِ يَقْدِمُها عُتُلٌّ أَبْقَعٌ زَنيم.. لِيَحتَزَّ (لِلنّبي) أوداجاً وَيَفرِي لَهُ كَبِدَاً.. وَينْفجِرُ الدَّمُ العَلويُّ نَهراً دافِقَاً، فَتَهْتَزُّ الأرضُ وَتَرْبو.. وَتُنبِتُ شَجَرَةً قُدسِيّةً.. تَسْتَمِدُّ مِنَ شَذا الشّهادَةِ عِطْرَها.. (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا).. ثَمَرَتُها عِزَّةُ المُتَّقِين.. ((وللملحمة بقيةٌ تُكملها الزَّهراءُ الصُّغرى)).
أيّها (التّائِبُ): ها هُنا كَرْبَلاء، فاخلَعْ لِمَبلَغها نَعْلَيكَ.. واجثث بها، وَقبِّل الأرضَ إجلالاً وإكباراً، وهذا الحُسَين.. قَتَلوه لِيَحيا وَنَحيا..! نعم هُنا أنْتَ في كَعْبَةُ العِشْقِ ومِحْرابِ الأُباةِ الثّائِرين، فَاسْتَغْفِرِ الله عِنْدَ السَّفينةِ مُطمَئنَّاً.. (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).
عِندَها تَنَفَّسَ التائبُ الصُّعَدَاءَ (وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الأبيات للشاعر حسين صادق الكربلائي من قصيدته (علمتنا كربلاء).