من التراث .. قصص واقعية

15-10-2019
السيد عبد الملك كمال الدين
فرق بين من حبيبه معه، ومن كان ينتظره وراء الباب:
كهل بلغ من العمر أكثر من خمسة عقود أفنى عمره في عمل ينظر إليه المجتمع بالريبة والاستهجان وعدم الرضا حيث كان معتمد جهاز (السرية) (الجاسوية) في العهد الملكي وبداية العهد الجمهوري وحصرا في زمن (البكر) وما أعقبه ومعروف للقريب والبعيد من أبناء مدينة الحلة وحلة (الجامعيين) وما جاورها من مناطق الطاق إنه (ن، ب) يخرج من بيته فجراً مسرعاً خائفاً من نظر أبناء المحلة، وهو يعتمر يشماغه وعقاله الجنوبي متجها الى دائرة الأمن، ومن بعد أخذ المعلومات يتجه متابعاً من عليه نظرة شك ليجمع المعلومات، وما يهتم به، وحصرا السياسيين من الشباب وغيرهم نعم هكذا كانت مهمته أن هذا الرجل كان ناراً على علم يعرفه القاصي والداني من أبناء مدينة الحلة.
وفي بعض الأحيان عندما يلتقي بعض معارفه من أبناء المحلة الذين يمازحونه باستهجان لعمله غير اللائق بكبرته ومحلته، خاصة أن عنده ابنا مثقفا تقدمي الفكر محبوباً جداً من معارفه متواضعا متعاونا مع الكبير والصغير، تعب كثيرا في ثني والده حاثا إياه في ترك هذا العمل الشائن الذي هو موضع احتقار الناس جميعاً، ولكن سارت الأمور على هذا المنوال على الرغم من ازدواجية والده، فكان أحياناً يعمل على اخبار بعض العوائل سرا عن نظرة السلطة الغاشمة حول تصرفات أبنائهم في العمل السياسي المناوئ للسلطة.
وتمر الأيام ويُلاحق ولده من قبل الحرس القومي البعثي وقد اجتمع أبناء المحلة ولحبهم إياه نصحوه بالالتحاق بالشباب المجاهدين في الأهوار الجنوبية، وفعلاً وصل الى هناك وهو مؤمن يقيناً بموقفه الجهادي ضد سلطة البعث الغاشم.
وتمر الأيام والأب يتحرق شوقا ووجدا لفراق ولده العزيز، وهو بلا شك يفخر بمحبة واحترام ولده الغائب عند عموم أهل المحلة نساء ورجالاً والأب يعتقد أن ولده سيشفع له عند الناس لا سيما وقد قرر أن يترك عمله السري، ويبتعد تماما عنه، نادماً على عمره الذي قضاه سدى فأخذ يعتكف في بيته وفي غرفة ولده وسرير منامه باكيا بكاء الثكلى بل أكثر، فساءت صحته حتى أنه أحيانا يخرج الى الشارع باكيا بحرقة جعلت أبناء المحلة يواسونه ويخففون من آلامه وحزنه، ويدعون له بالصبر وقراءة القرآن فلربما يعود الحبيب يوما، والله سبحانه رؤوف رحيم، فيسكت برهة والدمع يتساقط من عينيه كالميزاب، وهو يردد بحسرة وألم قائلاً: يا اخوان أشكركم يجازيكم الله خير الجزاء ولكن اعذروني ففرق بين من حبيبه معه تحت جناحيه وبين من ينتظر خلف الباب، فأنا يومياً أجلس خلف الباب لعله يعود ويطرقها ثانية، يا ناس ادعو االله الجليل وآل البيت الأطهار أن يرحموني بعودته.