رواية عن الفتوى المقدسة ( وكنت معهم )

16-02-2020
اللجنة الادبية
زيارة التكية الكسنزانية:
لم يكن صمت تحسين العبد الله احتقاراً لأحد، لكن الصمت أحياناً يريح الانسان، يعيد له الذاكرة ينشطها لا ينسى أي موقف من تلك المواقف التي مرت خلال الأزمة، يقول: الرجال تعرف بالمواقف، وتلك القضية لم تستوقفني يوماً؛ لكونها معروفة وراسخة في ذهنية الجميع، لكن الذي يدهشني أن يسدل الستار فجأة على المواقف النبيلة، لابد أن تطلق تلك القصص البطولية الكبيرة لوفد المرجعية. أنا اطلعت على جميع المواقف ورحلات الوفد خطوة خطوة.
عقب الشيخ عارف: لو كانت جهة أخرى قدمت هذا الذي قدمته المرجعية المباركة، لرأيت الاعلام كيف سيشتغل، قال تحسين: لقد كتب لي صديقي الشيخ باسم النصراوي عن زيارة التكية الكسنزانية، كانت لنا زيارة الى مخيم التكية الكسنزانية في منطقة الدورة صباح يوم 30/6/2015م حيث ان في هذا المكان مخيمين: الأول لأهالي صلاح الدين الذي يضم قرابة 400 عائلة معظمهم من منطقة يثرب، والثاني لأهالي الأنبار من الرمادي والذي يضم قرابة 600 عائلة.
الناس هنا يعيشون ظروفاً صعبة وأوضاعاً مأساوية أسوة بباقي المخيمات، حيث كثرة النفوس التي تتجاوز الخمسة آلاف نسمة، وقلة الماء الصالح للشرب وانقطاع التيار الكهربائي، ووجود البرك المائية التي صارت مرتعاً للحشرات الناقلة للأمراض، وانتشار الأمراض الجلدية وغيرها.
يفتقد المخيم الى ابسط مقومات العيش والناس تشكو العوز المادي لانعدام فرص العمل، والشيوخ كل يجود بنفسه لعدم توفر الدواء للأمراض المزمنة، حرارة الطقس لم تمنع كثيرا من الناس من صيام هذا الشهر الفضيل الذي وجدوه سلوى لهم؛ علّه ينسيهم همّ وحرارة الخيام التي ما إن ينقطع تيارها الكهربائي حتى يحولها الى تنور شاءوا ام أبوا من السكن تحتها؛ لأنها أرحم من حرارة الشمس اللاهبة،
جهزنا تحضيراتنا للزيارة بعد رصد المواد الغذائية والبالغة 50 طناً التي تكفلت العتبة الحسينية بالجزء الأكبر منها، وأرسلت العتبة العباسية تناكر ماء الآرو وبرادات الثلج وشراء المبردات والفرش والمواد الاخرى بمبالغ من مكتب سماحة السيد السيستاني (دام ظله) استقبلنا القائمون وكثير من الوجهاء من النازحين على باب الرئيسي للتكية التي تضم المخيمين، فكانت الفرحة بادية بأهازيج الأهالي.
جهزنا المطبخين بالمواد الغذائية من الطحين والرز والزيت والمعجون وغيرها بأكثر من 30 طناً، قسمت على المطبخين الرئيسين ومنهما على العوائل بآلية متبعة عندهم، وتم تجهيز المخابز بعدد 10 تنانير، وكذلك خمسة أطنان لكل مطبخ من مادة الطحين، وأكثر من طن من الخضراوات، واربعة خزانات ماء سعة خمسة آلاف لتر.
اجتمع الناس حولنا، نازح من منطقة يثرب يقول:ـ أولاً نشكر المرجعية التي تواصلت معنا اكثر من مرة، ونطلب منها التدخل بإرجاعنا الى دورنا ونعاني من قلة خزانات الماء والحصص الغذائية وملابس للأطفال والنساء ونحتاج الفرش والبطانيات.
وقع بصري على شيخ تجاوز السبعين من العمر يجلس في إحدى الزوايا نقرأ في تقاسيم وجهه حالة اليأس والبؤس، وعيونه تفصح عما يخفي في قلبه، وما اهم به يا ترى؟ بماذا يفكر؟ بادرناه بالسؤال فأجاب:ـ أفكر أن ارجع الى بيتي واجمع عيالي الذين شتتهم الزمان وتلك البيوت التي فارقناها (صار لي شهرين من دون دواء وانا مريض بالقلب والسكر)، جادت اليد بالعطاء لنسد مصاريف العلاج لكن يبقى ذلك الهم والغم لا يزال الا بجلاء معاناتهم ورجوعهم الى ديارهم.
يقول أبو سمير وهو من القائمين على ادارة المخيم: (العوائل بازدياد دائم واما زيارتكم فإنها تدل على وطنتيكم وشعوركم بنا، وكأنا بين اهلنا فقد انسيتمونا الغربة، نعم فقدنا الدور والبيوت لكن وقفتكم طوّقتنا بالجميل ولا ننسى هذه المواقف النبيلة).
اما حرارة الشمس وغبرة السماء وانعدام الخدمات وغياب الجهد الحكومي كل هذه عوامل اثقلت كاهل الساكنين بهذا المخيم، حيث قُدمت لنا عشرات الطلبات من الناس الذين تجمعوا حولنا بأعداد كبيرة وكل هذه الطلبات كانت بسيطة ويسيرة وحُلت بمبالغ بسيطة.
دخلنا الى خيمة لعائلة من صلاح الدين وصلت الى بغداد قبل خمسة ايام لم نجد لنا مكاناً نجلس عليه حيث كانت خالية من كل اثاث وفراش الا قطعة من النايلون يلتحفونها من تحتهم وفوقهم كانت الخيمة ممزقة من جهاتها الأربع، وسموم رياح الصيف تعبث بها يميناً وشمالاً، المخيم بأجمعه لا يسر صديقا ولا عدوا، فكيف بهذه الخيمة التي نحن بها بألم وحزن، لم نمتلك دموعنا، وبرباطة جأش اخذنا نصبر عليهم: (شدة وتزول ان شاء الله، فقال: الله موجود وبوجود المرجعية كل شيء يهون).
قابلنا رجلاً بعمر الستين قال: (كنت ازرع ارضي هناك في الشركاط وكان كل شيء متوفراً، والعلاج موجوداً، وأصبت بجلطة قبل اربع سنين وانا اليوم هنا لا املك الا نفسي واطلب منكم توفير العلاج)، فلُبّي له طلبه وتم تسديد اجور العلاج له ولكثير من اصحاب الاحتياجات الخاصة، الامطار ضربت عموم العراق ومع تردي البنى التحتية وتهالك شبكات تصريف المياه تعرضت بغداد لفيضانات كبيرة غرقت كثير من الاحياء ودخلت المياه داخل البيوت شلت الحركة، وازداد سخط الناس وكان النازحون اكثر تضررا في مخيماتهم.
توجه وفد من لجنة الاغاثة التابع لمكتب سماحة السيد السيستاني في تلك الليلة لمشاهدة الحال عن قرب وعند الصباح وصل التقرير لمكتب سماحة السيد الذي يضم صورا لحال الخيام التي غمرت بالماء تماماً، وتضررت كل الممتلكات مثل: البطانيات والفرش وغيرها.
أوعز المكتب بتقديم المساعدة العاجلة من خلال اجتماع مصغر في النجف الاشرف حول نوعية المواد التي منها مادة السبيس والنايلون؛ لأن الخيام بأجمعها تضررت وتحولت الطرق وداخل الخيام الى برك ماء ووحل، وتمت الاستعانة بالعتبة الحسينية لتوفير بعض الآليات لنقل مادة السبيس، وتم تأجير الباقي (18 سيارة حمل كبيرة)، واستحصال الموافقات الرسمية من عمليات بغداد لنقل مادة السبيس من مقالع منطقة اللطيفية، فكانت المواقع التي تم زيارتها ستة مواقع منها في بغداد مجمع التكية الكسنزانية، ومجمع اسيا في منطقة الدورة، ومجمع خيمة العراق في اليوسفية، ومخيمات عامرية الفلوجة وبزيبز.
ابتدأنا في التكية يوم 3/11/2015م حيث نقل اكثر من 35 سيارة حمل واكثر من 530 بطانية و250 دوشكا و5 أطنان من المواد الغذائية وغيرها كانت السيارات تتحرك بصعوبة؛ لأن الأرض غمرتها المياه (انقلبت احدى السيارات اثناء تفريغ حمولتها) لم يكن هم للناس الا تأمين مكان داخل الخيمة للجلوس وتثبيت اوتاد الخيمة ووضع النايلون عليها.
يروي لنا السكان انها كانت ليلة عصيبة لم نستطع النوم من كثرة الامطار التي غمرت المكان من كل جانب، لم نجد ما نحمي به اطفالنا احد النازحين يقول:ـ هطلت الأمطار فجراً جرفت الخيام وغرقت البطانيات والفرش لنبقى الليل بطوله بهذه الحال (في مخيم اسيا) هربت العوائل للبيوت القريبة التي آوت الأطفال والنساء، لكن هنا كان الكل تحت الأمطار.