محاورة مع الدكتور سعدي عبد الكريم القسم الثاني
11-05-2020
علي الخباز
محاورة مع الدكتور سعدي عبد الكريم: «لا يمكن للكاتب إلا أن يقف في حضرة هذا المكان المقدس إجلالاً وإعظاماً، وتبجيلاً، ليتدفق من حبر قلمه ذلك الانحياز الفطري لقدسية المكان في النفس، وفي التاريخ، وعلى المستوى الانساني»
- علاقة الأنا الفردية بفضاءات المكان من حيث الدلالات التاريخية وقدسية المدينة:
أ- ثراء المؤهل المكاني باعتباره مؤثراً دلالياً وجدانياً؟
سؤالك يا سيدي يحتاج الى وقفة في عديد تفصيلاته، وسأحاول الاجابة عنه بكليته، وبتفصيل تفرعاته.
الأنا: عنوان فضفاض يحتاج الى صقل في تقديمه كوجبة حائزة على التفصيل في مائدة التحليل، فهناك الأنا التي تشتغل مع ذاتها لتفرز لنا اشتغالات ادبية ذات نضوج فاخر على مستوى المنتج الادبي والثقافي والإنساني، وهناك الأنا التي لا تشتغل إلا على فردانيتها لتشبع رغباتها الآنية، وغرائزها المكبوتة، وإرضاء ميولها الشخصية، والفرق جليّ بين الاتجاهين، فالتفكير والتفكَّر هما اطروحتان تعملان على تشغيل الوعي الانساني وتخليصه من الجمود، فالنصوص الجامدة التي لا تمتلك روحاً هي النصوص الذاتية التي تكتب لإرضاء النزعة النَّرجسيَّة للكاتب. أما النصوص التي تنبع من ذات الكاتب بنبوغ معرفي خلاق، وباتجاه العقل الجمعي للتفاعل معها وإحاطتها بهالات من الاندماج هي النصوص المتحركة والفاعلة في الصيرورة الفكرية للشعوب.
وعند الرجوع الى سؤالك، فأنا أعتقد بأن الفحوى الدلالية تشير الى أن الايعاز الاستجاباتي موجود، ومتوافر في مبطنه الجمالي، نحن نعتقد يا سيدي بأن المكان هو جزء من الكلمة، ولا يمكن فصل المكان عن التدوين بجلّ مخاصبه الفنية ابتداءً من الشعر، والرواية، والقصة، والمسرح وغيرها من الفنون، والآداب.
إن تجريد النصّ الأدبي من زمكانيته هو بمثابة فصل الجنين عن الرَّحم بإيعاز غير عاقل، فارتباط النص بالمكان هو ارتباط تماثلي حقيقي، والتصاق جمالي لا يمكن معه الاشتغال على مهابة النصّ دون الرجوع الى عبق المكان وزواياه المعتمة والمضيئة وامتلاء الرُّوح المُدوّنة من ذلك العبق المهيب لتتوهجّ المفردة في النصّ، أنا لا استطيع الفصل بين اللغة والمكان، ولا بين متعة الكتابة والمكان، ولا بين الوجود الانساني وعبق المكان.
المكان هو الحقيقة الراسخة في الوجدان، والذاكرة الإنسانية وتأتي أهميته من اعتبار وجوده النابض بالحياة، وفي تدرجات عناصره المهمة الاسترجاعية التي تمثل الفضاء الاوسع في تاريخية النصّ، والمكان بجلّ ابعاده الواقعية والخيالية تنضج في ذاكرة الكاتب لتنتج فيما بعد صوراً وأشكالاً على هيئة ايقونات مشعّة وفاعلة في جسد الحدث، والثيمة النصّيّة، وهو مرتبط ارتباطاً وثيقا بالحيز الرمزي والمُشفَّر بدلالات الحاضر، والماضي، لتنتج بفاعلية متقدمة تلك الحركة الممشوقة بين (المكان + الزمان + اللغة + الكاتب + النصّ) لضرورة خلق اندماج كليّ لتسفر عنه تجربة خلاقة عبر منظومة الشكل والمضمون، والانسجام السيكولوجي والفيزيقي، والتاريخي بين مفردات النصّ والكاتب والمكان لخلق احساس وجداني رفيع في انشاء سحر مكاني يعبر عن ذات الكاتب، وللمكان اهميته المتمثلة بالزوايا المتعددة الاتجاهات، فالعمل الادبي يتكئ على المكان بقصدية واعية، او غير واعية ولأن المكان له خصوصيته، وأصالته في النصّ كما يؤكد معنى ذلك غالب هلسا بقوله: (ان العمل حين يفتقد المكانية فهو يفقد خصوصيته، وبالتالي يفقد اصالته).
يتوزع المكان من الناحية المتعلقة بالذات البشرية المنحازة الى القيم الرُّوحية، هنا يصبح المكان ذا اهمية بالغة في تأسيس مرتكزات النصّ، فالأمكنة التي لها قدسية في العقل الجمعي، لها قدسية بذات القيمة او ربما اعلى في ذات الكاتب، ليفرغها عن يقين ثابت، ورؤى صادقة داخل فحوى النصّ فمدينة مثل (كربلاء) تحمل المقدس في إشراقة وجهها البهيج، وتحمل اوجاع المأساة الكبرى في جنباتها، وترتفع في رحابها القباب العالية الوضاءة، وتسكن الأضرحة المقدسة في ملكوت الله الرَّحبة.
وهنا لا يمكن مع التباين في انحيازات الكاتب الفكرية او العقائدية او المذهبية وهو يقف في هذا المكان المقدس الذي يحمل عبق التاريخ، ونسيج الملاحم الكبرى، ومآسي الازمنة الفائتة، ودماء الاجساد الطاهرة إلا ان يقف في حضرة هذا المكان المقدس إجلالاً وإعظاماً، وتبجيلاً، ليتدفق من حبر قلمه ذلك الانحياز الفطري لقدسية المكان في النفس، وفي التاريخ، وعلى المستوى الانساني.
ب- خصوبة الفاعل الرمزي الانساني والفعل التاريخي؟
إن الخصوبة بمعناها التأثيثي في عموم فنون الأدب، تعني امكانية توالد الفكرة، وديمومتها من رحم المُتلاقيات، او المتنافرات، وهنا علينا الوقوف قليلاً ازاء مفهوم هذا التوالد الحيّ الناشئ أصلاً من تلاقح عدة عناصر تأخذ النصّ الى حيث فسحات الانفتاح على معالم ثانوية باستثمار محفزات محاذية لفعل الكتابة، فالدلالة، والرمز، والإيحاء، والإيقونة، والإشارة، والعلامة، والكود اللغوي باعتبارها عناصر متوالدة من الاشتغال على منطقة الحدث، وتطور (الثيمة) وتناميها داخل المحاور الرئيسية عبر اللغة في فن التدوين.
وقد عرف الإنسان السومري الاول كيف يستثمر الرمز في تدويناته الاولى استثماراً فنياً عالياً، وناهض الجودة في ملحمة كلكامش فأعطاها مُتسعاً رمزياً فاعلاً في الثيمة، وصبغة انسانية لما آلت اليه الاحداث المتصارعة في بوتقة الانشاء للملحمة، ومزجها مع تكوينات ذات اطار خصبوي متعدد الإفرازات ثم احالها لمنطقة الرمز، وكانت خلاصتها الرمزية الراقية، ان خلود الانسان لا يأتي عبر خلوده الجسدي، بل يأتي من خلال فعله البشري لخدمة مجتمعه، والإنسانية وهذا النوع من البثّ الرمزي هو حصيلة ارتقاء وعي الانسان العراقي الأول وينسحب بطبيعة التوازن الفكري الى مخاصبه المتوالية من الاجيال التي تعرف بإجادتها في استثمار خصوبة الفاعل الرمزي الانساني والتاريخي، فالتاريخ هو المنشأ الحقيقي الذي يمكن معه تأسيس مملكة من الوعي الذي يؤهل الكاتب الى الولوج الى مقتربات التحليل والتفسير والتأويل في حيثيات الواقع من خلال استقراء التاريخ؛ لأنه الفاعل الديناميكي لخلق حالة من الموازنة بين حقائق التاريخ والمناطق المعتمة فيه، والتي لم يفصح عنها، كما اشير شخصيا وعلى الدوام وفي كلّ المحافل الادبية والثقافية قائلاً:ــ (ان الحقائق التاريخية التي نتظاهر بمعرفتها، هي الحقائق الغاطس نصفها في جوف مناطق العتمة من التاريخ، فالحقيقة المُدوّنة التي نعرفها، ليست هي الحقيقة المطلقة، ولكنها نصف الحقيقة).
وعند الرجوع الى فحوى سؤالك القيّم عن خصوبة الفاعل الرمزي الانساني والفعل التاريخي، أنا أجد بأن ليس ثمَّة نصٌّ ليس فيه تناص، إلا النصّ المقدس، فالكتابة فعل انساني يستلهم التاريخ، ويُدوّن وقائع الحاضر، ويستشرف المستقبل، فالأدباء، والمثقفون العراقيون اثبتوا وعلى ضوء مقاسات سجلهم التدويني المتنوع الأشكال بأنهم افضل من حاكى هذه المتلازمات الثلاث: (الانسان – التاريخ - الرمز).
نحن نحتاج -بوصفنا بشراً- لقراءة التاريخ للتواصل الجيني الفني والنوعي، لا على سبيل اعادة انتاجه من جديد بأساليب اعتباطية مكررة غير متحررة من قيد الثابت، غير المتزامن مع حركة الزمن، بل علينا استلهام مفردات التاريخ وتطويعها لوعينا الحاضر لإنتاج محفل ادبي وإنساني خلاق، واستثمار جميع المحاذيات الاخرى كما اسلفنا (الدلالة والرمز والأيقونة والعلامة وغيرها) للإفصاح عن مستوى تحضرنا وإخضاع الفاعل التاريخي الى فاعل حضاري يمكن التعايش معه لا النفور منه، والأهم من هذا كله علينا ان نكون جادين للنهوض بملحمة التغيير، بمعنى علينا ان نكون فاعلين في التأثير على الوعي الجمعي لانتشاله من حالة الركود والسبات والارتقاء به صوب مفاتن المخاطبة الفاعلة في ذاكرة التاريخ، والنوازع الإنسانية لتأسيس منظومة راكزة تصبُّ في مصلحة الانسان باعتباره الكائن العاقل الذي يستطيع أن يفكر.
ج- التعاطف مع انعكاسات الموروث الفني وخاصة ما يمثل الاحتفاء الولائي وانت صاحب نقدية في دراسة مسرح التعزية؟
الكاتب بالعموم - يا سيدي - والكاتب المسرحي بالخصوص هو الوريث الشرعي، والابن البار لإرثه الفني النبيل، وهو مولود بشري يخضع لوظائف الطقوس الوجدانية، والرُّوحية، والفكرية، وذاكرته مُحمّلة بذلك الموروث بالفطرة، ومن خلال مراتب الخزين القرائي الكبير، وانعكاسات قراءاته تلك على وعيه الذاتي، وتفكيره الحضاري، فهو حصيلة عملية تمازج أنموذجي بينه وبين ارثه الفني، وبالتالي فهو نتاج عملية تناص حيوية فاعلة من جسد الموروث، ينتصر الكاتب لها أحياناً، وربما يتنصل عنها احياناً اخرى لدوافع شتى، لكنه يبقى اسيراً لذلك الموروث في اللاوعي، ويعود اليه بدرجات متفاوتة ليس بقصدية النّهل منه، بل بعفوية تلقائية تفرض كينونتها على النصّ، وصيرورتها المثالية على عقل الكاتب.
إن المُقدس في حياة الأديب، وفي نتاجه الفني لا تفرضه القواعد الشكلية، بل تقوده النوازع الرُّوحية المشتغلة في ذاكرته الجمالية، فهو يُحلل الظاهرة، ويفسرها، ويفككها الى مركبات ذات منفعة عضوية في فن الكتابة، لإحالتها الى اجراءات تماثلية مقارنة حقيقية، وإخضاعها لعملية الطقسية المؤثرة التي تأخذ على عاتقه تحقيق المعادلة الناجزة بين المقدس، وبين التوالدات الفنية المعاصرة.