رواية عن الفتوى المقدسة .. ( وكنت معهم )
29-05-2020
علي حسين الخباز
مخيم النبي يونس
في النهروان:
ثم انتقلنا بعد ذلك لمجمع النبي يونس في منطقة النهروان والذي تم تشييده من قبل مجلس محافظ بغداد وهو عبارة عن كرفانات تم توزيعها على النازحين من مدينة الموصل، وإن اغلب سكنة هذا المخيم من الشيعة الشبك وعددهم 400 عائلة رغم أن حالهم افضل من غيرهم من النازحين.
الألم والغصة لفراق الدور وهجرانها كانت بادية في وجوه الناس الذين تجمعوا حولنا ليعبروا عن مشاعرهم وفرحتهم بهذه الزيارة، طرقنا الابواب بابا بابا لنسلم عليهم، وننقل لهم سلام سماحة المرجع والدعاء لهم ونضع عند كل باب سلة غذائية.
زيارة بزيبز الأولى:
أن تجلس في مدينتك تهادن العصابات المجرمة وانت تقلق على ناسك واهلك الذي هجروا وملؤوا خيام اللجوء، هذا هو الأمر الذي لابد أن نراجع به انفسنا، ان ننظر من خلال هذه الكوة الى عظمة المجاهدين من رجال المرجعية الدينية الذين تدفعهم المسؤولية الدينية والوطنية والانسانية ان يذهبوا الى مدن الخيام، أن يجوبوا هذا الخطر؛ ليسألوا عن الناس ليحملوا لهم الدعاء وسلال العافية والدواء وابتسامات الأمل الذي عجزت ان توفره لهم الحكومات، ولهذا كانت لغتي هي الكلمات التي كان يحملها وفد المرجعية الى الناس.
كلامي هو هذا الأمل الذي تحمله المرجعية المباركة الى كل عراقي، هذي هي لغة الدين والحضارة والانسانية والا ما الذي فعلته الحروب سوى هدم البيوت وقتل الانسان وهتك الاعراض، وصلتني رسالة من صديقي الشيخ باسم النصراوي يحدثني فيها عن زيارة بزيبز الاولى:-
رغم أن الانبار بالجملة غير آمنة، وان من اهلها الكثير من النازحين، الا ان الاعم الاغلب منهم كان في داخلها، او على اطرافها حيث كان مركز مدينة الانبار وهو الرمادي على حاله ولم يسقط بيد داعش رغم المعارك الدائرة على اسواره.
وقد اعطى الجيش الامريكي تطمينات من انه لا خوف على مركز المدينة وهو في امان وفي يوم 18/ 5/ 2015م نتفاجأ بخبر سقوط مدينة الرمادي بيد داعش وتفجير المقرات الحكومية فيها لتشهد محافظة الانبار اكبر موجة نزوح، بل هي الاكبر في العراق منذ سقوط الموصل قبل سنة من هذا التاريخ.
كان قبل ذلك الوقت بعشرة ايام تقريباً اخبرنا سماحة السيد العميدي بضرورة تخزين المواد اللازمة لأزمة محتملة وازمة نزوح كبيرة وبالفعل حصل ذلك لتزدحم اسوار بغداد بالوافدين اليها او المارين من خلالها، قامت الحكومة بعدة اجراءات منها عدم الدخول الى بغداد الا بكفيل وهذا ما زاد من معاناة النازحين الذين علقوا عند نقطة العبور الوحيدة وهي بزيبز، وهذه المنطقة هي احدى القرى التابعة الى عامرية الفلوجة في محافظة الانبار حيث يسكنها عشائر البوعيسى ويقسمها نهر الفرات الى قسمين وعليه معبر من الطوافات الحديدية وعرف هذا المعبر بجسر بزيبز.
تناقلت الفضائيات بالصورة والصوت الحالة المزرية التي يعيشها الناس هناك، لذا اتصل مكتب سماحة السيد وتساءل عن هذا المعبر ووجه بضرورة تواجد لجنة اغاثة النازحين التابعة له هناك.
أرسلنا وفداً الى الاستطلاع وتبين انه توجد مخيمات أربع في هذا الجانب ومخيمات اخرى اكبر منها في الجانب الاخر من عامرية الفلوجة، وفي كلا القسمين كانت الارض يسكنها عشائر البوعيسى وان هذه المخيمات تخلتف عن غيرها حيث ان لها خصوصية؛ لأنها أنشئت على ضفاف نهر الفرات عند مدخل بغداد من جهة جسر بزيبز وقبل ثمانية اشهر تقريبا عند سقوط مدينة هيت، وان الغالبية من سكان هذه المخيمات هم عشائر البونمر، ولما كانت هذه (المخيمات) اول ما تواجه النازحين القادمين من الانبار كان الضغط عليها كبيرا من النازحين الجدد الذين يبقون بالقرب منها عدة ايام حتى ينتقلوا الى مناطق اخرى.
وبعد استحصال الموافقات الرسمية من مكتب سماحة السيد السسيتاني توجهنا في صبيحة يوم 24/ 5/ 2015م الى هذه المنطقة .
وصلنا الى السيطرة الاخيرة وبعد استحصال الموافقات من عمليات بغداد جاء الاذن بدخول العجلات المحملة بالمواد الغذائية وصلنا عند الساعة الحادية عشرة رغم ان المنطقة زراعية الا ان الشمس كانت عمودية.
وهذه المخيمات قد أنشئت على مساحة صغيرة مما جعل الخيام قريبة من بعضها فحتى في هذا المكان لا يوجد متنفس للصغار للعب، تجمعوا حولنا فكان لكل واحد منهم على صغر سنه قصة بذلك. الناس تشكو ما مر بهم من ضيق وضنك، وان القيادات قد تخلت عنهم وتركوهم يواجهون هذا المصير الاسود وتحت رحمة داعش.
اثناء تجوالنا بالمخيم وقفنا على باب خيمة بالية، شكا اهلها الحر الشديد وانقطاع التيار الكهربائي المستمر وقال احدهم: (هاي البنكه هسه مشتغله بعد قليل تنطفي الكهرباء، وتصير الخيمة مثل التنور نخرج الاطفال عراة في الشمس اهون من ان نبقيهم بالخيمة).
قال احدهم: انا جريح حيث كنت في سلك الشرطة، ونطالب ان يدخل الحشد الى الرمادي.
الحاج ابو حيدر احد اعضاء الوفد المرافق معنا يروي لي هذا الموقف لأحد النازحين على حصة غذائية، وبالغ في طلبه تم اعطاؤه ما يريد وبالصدفة قابله احد الحاضرين، وهو من النازحين ايضاً، ويبدو انه لم يره من فترة طويلة ليسلم عليه ابو علي: كيف الحال قال: الحمد لله..
:ـ متى وصلت؟
:ـ منذ أيام.
:ـ واين الاموال وذاك العز؟
:ـ تركت كل شيء وخرجت وعيالي بملابسنا.
حينها تذكرت قول رسول الله صل الله عليه واله وسلم: (ارحموا عزيز قوم ذل).
فحاولت ان اواسيه، بكى وقال: (انا من اغنياء الرمادي حرق لي داعش 13 سيارة وسبعة بيوت كبيرة كأنها قصور ولم نخرج الا بطرك الدشداشة والهوية).
تم تغطية سكان المخيمات الاربع بأجمعهم الا ان ظهر لنا ان الذين يسكنون خارج المخيمات اعداد اكبر بكثير من سكان تلك المخيمات، يعيشون بهياكل وبيوت وخيام بعيدة كانوا يسمونهم سكان العشوائيات، والذين تجمعوا حولنا وتم تشكيل لجنة لجمع بياناتهم وبعد ذلك نرسل حصصهم بوقت آخر.
الآلاف من السائرين على الاقدام من جهة عامرية الفلوجة الى بغداد كانت العوائل قد انهكها التعب وصلوا الى الضفة الاخرى بسيارتهم الشخصية تركوها في الصحراء ليعبروا الجسر سيرا على الاقدام الحسرة والالم والاعياء كان واضحا على الجميع: (هذا لمن حاله افضل من غيره وقد وجد كفيلا كي يعبر) فما بالك لمن لم يسمح لهم لعدم وجود الكفيل؟
قال احدهم وكان معه مجموعة من النساء وهو يحمل بعض الفرش على كتفه: لقد تركنا كل شيء وهربنا بأعمارنا.
فقلت: واين ستذهب؟ قال: (ما ادري لكن الله موجود).
شاب آخر في عمر الاربعين معه امه عبر الجسر توا، فقلت له: (حمدا لله على سلامتكم واهلا وسهلا بكم في بغداد) كلمات علها تصبرهم، لم يتمالك نفسه وخنقته العبرة فأجهش بالبكاء وأطلق العنان لدموعه لتجري على خديه امام الناس والكاميرات التي كانت تصور ما باليد إلا أن نكفكف تلك الدموع واقول له: تلك الدموع عزيزة ليختصر بتلك الدموع قصة عشق عاشها مع ارض تركها مرغماً.
نصب موكب خدمي بالقرب من المعبر قدم يومها الطعام والشراب لأكثر من ثلاثة آلاف شخص.
وزيار الشيخ الذي اعطى الارض الى منظمة اقيمت عليها المخيمات لنشكر له صنعه ونعرض انفسنا ان نكون بخدمته اذا احتاج شيئاً ليكمل كرمه وبضيافة للوفد وبعض القادة الامنيين.