قمران في أحضان الفرات
22-08-2020
عبير المنظور
هناك في صحراء الطف اللاهبة، ورمالها الساخنة، وبين ألسنة النيران وأعمدة الدخان المتصاعدة من المخيم التي ملأت الأفق الملبد بالنوائب يوم عاشوراء، ورائحة الدخان والاحتراق تسيطر على الأجواء، وأصوات النساء والأطفال تتعالى؛ خوفاً من خيول الأعداء التي تحوط المكان، هرب طفلان مذعوران يتعثران بأكوام الجثث الممثل بها، والمطحونة بسنابك الخيول، فزادهم المنظر رعباً وحزناً؛ لأن هذه الجثث هي للأهل والأحبة، ولكن ما من وقت لتوديع الأحبة أو الانضمام الى بقية العترة الطاهرة، فالوقت يمضي سراعاً بعد أن توقف الزمان هنيهة في لحظة مصيرية تعادل دهراً بأكمله، حينما سمعا زين العباد يقول لعمته جبل الصبر زينب: «فرْنَ على وجوهكن في البيداء» فرّ الطفلان وفرّت معهما كل الذكريات الجميلة.
أمسكا بيد بعضهما، وركضا نحو المجهول، حيث لا وجهة محددة ولا فكرة محددة، كان الهروب من تلك المعمعة مستحيلاً، حتى وإن هربا بعيداً نحو مستقبل مجهول إلا أن ضجيج قعقعة السلاح وصراخ الثكالى واليتامى يملأ رأسيهما الصغير، في لحظات استراحة معدودة، كانا يجران أنفاسهما، ويتعانقان ليطمئن أحدهما الآخر.
تاهت معالم الخلاص، وهم يتخبطون في الصحاري والقفار حتى وصلوا الكوفة، عاشوا الترقب والخوف، لم يكن ليطمئن قلبهما، ويبدد هواجسهم سوى اعتناق بعضهم بعضاً، حتى أدخلوهم سجن ابن زياد، وخلف تلك القضبان المشؤومة والزنزانات الملأى بالمظلومين من شيعة أهل البيت ع، لا ذنب لهم سوى محبة واتباع العترة الطاهرة.
عالجوا خوفهم بالصلاة والصيام واجترارهم ذكريات ايامهم السعيدة وأمنهم وأمانهم في أحضان أمهم وأبيهم وعائلتهم قبل واقعة كربلاء.
طفلان لا يتجاوزان العشرة أعوام: محمد ذو العشرة أعوام، وابراهيم ذو التسعة اعوام، عانيا من الخوف والتشرد والظلم والسجن والتعذيب لا لذنب سوى انهم ولدا مسلم بن عقيل..! ومن نجائب العترة الطاهرة..!
هرب الطفلان من سجن ابن زياد الى سجن الحياة الاكبر حيث النفوس البشعة التي لا همّ لها سوى المال وجائزة السلطان، حيث أكنّة القلوب واسودادها وقسوتها التي بددت كل معالم البشرى والطيبة التي تأملها الطفلان من السجّان والمرأة التي آوتهما بعد أن تشردا في ذات ازقة الكوفة المظلمة: كأبيهم مسلم بن عقيل.
تحولت تلك الآمال الى آلام بعد أن انقضّ قريب تلك المرأة على براءة طفولتهم، وأخذهم لشاطئ الفرات ليذبح تلك البراءة الهاشمية.
لم تنفع توسلاتهم لذلك الرجس، ولا اقتراحهم بأن يبيعهم ويأخذ ثمنهم، أبى إلا الذبح.
وتحت بريق سيفه طلبا أن يصليا لله ركعات، أطفال بعمر الزهور ختما حياتهما بالصلاة والدعاء وذكر الله تعالى.
فصلّى الغلامان أربعَ ركعات، ثمّ رفعا طرفَيهما إلى السّماء فناديا: (يا حيُّ يا حليمُ يا أحكمَ الحاكمين، احكُمْ بينَنا وبينَه بالحقّ)(1).
ثم حان وقت الموت وازفت تباشيره، وتعانقا مع بعضهما العناق الأخير، عناق الوداع الدامي، حيث قُتلا ورُمي جسداهما في الفرات، وحُمل رأساهما وهما يقطران دما في مخلاة ليُهدى الى الظالمين، لكن احكم الحاكمين حكم بالحق وذُبح القاتل في ذات المكان بأمر ابن زياد..! عندما رأى رأسيهما الصغيرين.
ويبقى شاطئ الفرات شاهدا على مظلومية اهل البيت ع، وكأن الفرات لم يكتفِ بقمر العشيرة الأكبر حتى احتضن قمرين هاشميين صغيرين، فما اعذب احتضان الفرات للأقمار، وما أقساه..!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أمالي الصدوق: المجلس١٩، ح١٤٥.