مراجع الهدى قادة الأمة في زمن الغيبة
01-08-2024
أم زهراء الصفار/ بغداد
يتأكد دور العلماء في زمن غيبة الإمام صاحب الزمان (عجل الله فرجه الشريف)، فعن أبي محمد الحسن العسكري (عليه السلام) قال: قال علي بن أبي طالب (عليه السلام): «من كان من شيعتنا عالماً بشريعتنا فأخرج ضعفاء شيعتنا من ظلمة جهلهم إلى نور العلم الذي حبوناه به جاء يوم القيامة على رأسه تاج من نور يضيء الجميع أهل العرصات..»(1).
وقال الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): «علماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس وعفاريته يمنعونهم عن الخروج على ضعفاء شيعتنا وعن أن يتسلط عليهم إبليس وشيعته والنواصب، ألا فمن انتصب لذلك من شيعتنا كان أفضل ممن جاهد الروم والترك والخزر ألف ألف مرة لأنه يدفع عن أديان محبينا وذلك يدفع عن أبدانهم»(2).
ومن الثابت المسلّم به أن الثغور الفكرية والثقافية لأمة من الأمم لو تعرضت لكيد الأعداء ولم تستطيع الذب عنها بنجاح فإنها سرعان ما تصيبها الهزائم العسكرية والسياسية أيضاً، ويتشابه دور المراجع مع دور الأئمة (عليهم السلام) من حيث تعدد الأدوار ووحدة الهدف، فهم حراس الدين والعقيدة، ومن أهم وظائفهم العلمية والدينية هي تبليغ الرسالات السماوية السمحاء وشرائع الله ومنهاجه، والأساس والعمدة أن يتولى الأمر من كان صائنًا لنفسه حافظًا لدينه مخالفًا لهواه مطيعًا لأمر مولاه، عالمًا ورعًا صالحًا، فقيهًا عارفًا بأهل زمانه واقفًا على رموز الحياة والسياسات الدولية والعالمية والداخلية يداري الناس بالتي هي أحسن، ويفكر في أحوالهم ومعاشهم ويقودهم إلى شاطئ الفلاح والنجاح.
إن منهجنا الرسالي يرى وجوب العلماء وتعظيمهم والاحتفاء هم، وكما أن الأنبياء يتفاوتون في قدراتهم وعزمهم ومساحة رسالاتهم وما تحقق على أيديهم وما أنجزوه، فإن العلماء يحصل بينهم ذلك على الدوام لكن هذا التفاوت بينهم في الإمكانات والقابليات النفسية والعقلية لا يبيح لنا ازدراء بعضهم، كما لا ينبغي أن يكون تعظيمنا لأحدهم مدعاة لمصادرة جهود الباقين منهم، وكما أن هناك معايير للتفضيل نادى بها القرآن الكريم، وأسس لها فإن التفاضل قائم بين العلماء على أسس تلك الموازين حتمًا، فشتان بين أنبياء يحث الله تعالى- سيد رسله على الاقتداء بهم: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾(الأحقاف/٣٥).
ونبي آخر ينهى الله تعالى رسوله (صلى الله عليه وآله) أن يقتفي أثره: ﴿ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾(القلم/٤٨).
وبالمجمل؛ إن التكامل بين العلماء هو كالتكامل بين الأنبياء (قياس مع الفارق طبعًا) والتفاضل بينهم كالتفاضل بين الأنبياء أيضًا: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾(البقرة/٢٥٣).
وليس هذا بدعة ولا كفر مادام في إطار الدين والمروءة والتوقير والخلق الرفيع إن العالم الفقيه المتصدّي لشؤون الأمة إنما يمثل دور النبي في زمانه؛ فإنّه وريث الأنبياء والأوصياء، وإن كان «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» إلا أنه راعي الحياة والرعاة والدعاة، فالدين يمثل حكومة الله على الأرض، وتطبيق سننه ونشر شرائعه ومعارفه وعلومه لإسعاد الإنسان وإنقاذه من الشقاء والتعاسة والبؤس والحرمان، وإنما كان ذلك بقيادة الأنبياء والمرسلين، ثم بأوصيائهم وخلفائهم، وفي زمن الغيبة بيد العلماء والفقهاء ليضمن خلود الرسالات السماوية، والشرائع الإلهية وسلامتها من أخطار التحريف والتشويه والاضمحلال والانحلال، ولا يكون ذلك إلا لمن كان جديرا في قيادته الإسلامية أن يقوم بمثل هذه المسؤولية العظمى.
عن الإمام علي الهادي (عليه السلام) أنه قال: «لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم من العلماء الداعين إليه، والدالين عليه، والذابين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب لما بقي أحد إلا ارتد عن دين الله، ولكنّهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكانها، أولئك هم الأفضلون عند الله (عز وجل)»(3).
وروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «أشد من يتم اليتيم الذي أنقطع عن أمه وأبيه يتم يتيم أنقطع عن إمامه ولا يقدر على الوصول إليه ولا يدري كيف حكمه فيما يبتلي به من شرائع دينه ألا فمن كان من شيعتنا عالمًا بعلومنا، وهذا الجاهل بشريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا يتيم في حجره، ألا فمن هداه وأرشده وعلمه شريعتنا كان معنا في الرفيق الأعلى»(4).
ومع هذا الحشد الكبير من الروايات التي تتحدث عن الأنماط الأخلاقية التي تسود المجتمع بصورة عامة عشية الظهور الشريف، وتتحدث عن تردٍ أخلاقي يُصاب به المجتمع حتى يبلغ الأمر بأن يتراءى المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، وتروى عن أن فتنًا كثيرة سيُبتلى بها المنتظرون، وسيتعرّض أهل الانتظار إلى امتحانات متعددة وسيكون فيهم التميز والتمحيص والغربلة والامتحان تلو الامتحان، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «والله لتكسرن تكسر الزجاج، وإن الزجاج ليُعاد فيعود كما كان، والله لتكسرن تكسر الفخار، وإن الفخار ليتكسر فلا يعود كما كان، والله لتغربلن والله لتميزن ، والله لتمحصن حتى لا يبقى منكم إلا الأقل، وصعر كفه»(5).
وبتعبير الإمام الرضا (صلوات الله وسلامه عليه): «لا بد من فتنة صماء صيلم»(6).
بمعنى فتن شديدة وأنماط متعددة من البلاءات في بعضها سوف يُطاح بكل بطانة ووليجة حتى لا يبقى من كان يشق الشعرة بشعرتين، ولأننا نعيش أشد الأزمان حسمًا لمعارك الهدى والضلال والعزة والذلة والعدل والظلم، كان واجب المنتظر أن يطمئن على سلامة بصيرته كي لا تزيغ عينه عن بوصلة الهدى وخارطة طريق التمهيد خاصة مع ما نشهده من عملية تضليل شرسة تشنها قوى الظلم على هذه البصيرة، والقيادة واضحة فهناك مرجعية يجب أن نلتزم بها وبهداها، ولا نحتاج إلى كُلفة كبيرة لكي نعرف القيادة التي نص عليها إمام زماننا (صلوات الله وسلامه عليه) في زمان غيبته، فلا يخفى على الجميع أن الإمام وفي إطار الاستعدادات للغيبة أمر بالرجوع الى رواة الحديث بالشكل الذي جعل الخيار أمام المؤمنين موصد بإحكام في الموضع الذي يأخذون منه الحكم الشرعي ولا توجد بوابة أخرى في قبال كلمة «ارجعوا الى رواة حديثا»،
فقد ورد عن الإمام محمد بن الحسن المهدي (عجل الله فرجه الشريف): «وأما الحوادث الواقعة فأرجعوا فيها الى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم»(7)،
لذلك الرجوع الى المرجعية هو باب ألزمنا أن نرجع إليه، فالمرجعية هي صمّام الأمان للشيعة الإمامية في كل زمن، ونحن نقدّس المرجعية؛ لأنها تمثيل للإمامة ولأنها امتداد للإمام القائم (صلوات الله وسلامه عليه)، فالتقديس لها هو في الواقع تقديس للإمام والإجلال لها هو إجلال للإمام نفسه، ولأن منصب المرجعية هو أعظم منصب في الفكر الإمامي من بعد الإمامة؛ بل هو سرّ القوة للمذهب بلحاظ أن هذا المنصب يضمن للمذهب الإمامي القوة الفكرية والمكانة العلمية وفصل الناس عن المرجعية وإبعادهم عن الدوائر العلمية سيجعلهم هدفا لكل من يتقصدهم؛ حيث سيسهل استغلالهم وخداعهم، وهذا هو هدف الأعداء؛ لأن الناس ترجع الى المرجعية ليتبينوا الحق من الباطل لأن الفقيه يفتي للناس بما يحفظ لهم دينهم بما يحفظهم عن الوقوع في الحرام ومخالفة الواجب.
إذن الفقيه دوره الحفظ بمراتبه الثلاث التشريعي والعلمي والعملي مؤيد ومسدّد من الإمام المنتظر (عجل الله فرجه الشريف)، ورد عن الإمام الحسين (عليه السلام): «مجاري الأمور بيد العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه»(8).
إن علينا أن نشعر بواجب أساسي وهو أن رؤية المرجع الأعلى ورؤية مقام المرجعية دائما كأولوية في عقولنا وأذهاننا، ومن دون ذلك ستسقط في أتون هذه الفتن مهما أوتينا من وعي، فعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: «أما بعد فإن معصية الناصح الشفيق العالم المجرب تورث الحسرة، وتعقب الندامة..»(9).
وحينما نتحدث عن الانتظار إنما نتحدث عن الانضباط ضمن خط الانتظار وما يريده إمامنا (صلوات الله وسلامه عليه)، حينما شرع لنا هذا الخط والزعامة العامة المتمثلة بمنصب المرجعية الدينية الهادية هي رأس الهرم، وهذا الموقع الذي يحتله رأس الهرم شخص عالم عادل تقي عزة للدين والمذهب وهو أنموذج للأمور التي حثّ عليها الإمام المنتظر (عج) ورضيها لنا، وكما أن إمام هذه المرجعية ليس شخصاً عادياً، كذلك مقام المرجعية ليست بالأمر العادي؛ لأنها بمقام النيابة العامة عن إمام زماننا (عجل الله فرجه الشريف) فمن لم ينصر مرجعيته ومذهبه اليوم من أين له أن ينصر الإمام المهدي (عج) ودولته الشريفة غداً؟
________
١- الاحتجاج، ج١، ص ١٧.
٢- المصدر السابق، ج١، ص١٨.
٣- بحار الأنوار، ج٢، ص٦.
٤- بحار الأنوار، ج٢، ص٢.
٥- الغيبة للنعماني ص٢١٥، ب١٢.
٦- مختصر بصائر الدرجات، ص٣٨.
٧- كمال الدين وتمام النعمة، ج١، ص٥١١.
٨- كتاب المكاسب، ج٣، ص٥٥١.
٩- شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد، ج٢، ص٢٠٤.