صناعة الرق حاضر يجسد تاريخ الكتابة والتدوين عبر الأزمنة والعصور

30-12-2018
احمد صالح
يعد التدوين من الخطوات المهمة التي خطاها الإنسان في مجال التوثيق العلمي والمعرفي في شتى الحقول والمجالات، وحفظ التراث الخاص بكل أمة، خصوصاً مع تنوع الثقافات المختلفة، ومما يؤكد لنا ذلك، هو ما وصل إلينا اليوم من العلوم، والمعارف، والأحداث التاريخية التي مرت على الإنسان منذ القرون الأولى لمهد البشرية...
ولعل اللافت للنظر أن كثيراً من الأحداث والمعارك، وأيضا طبيعة الحياة الاجتماعية منذ آلاف السنين، قد وصلت من خلال عمليات التدوين البسيطة التي كان يستخدمها الأقدمون: كألواح الطين، وأيضاً نقش الإنسان البدائي لأشكال ورموز على الخشب، أو الحجر في جوانب الكهوف والمغارات القديمة، ثم بدأ يكتب على أوراق النخيل واللحاء، بعدها استخدم العظام، وصفحات من خزف مطلي بالشمع الأصفر، وصفائح من رصاص ومن معادن أُخَر... حتى فكر المصريون القدامى باستخدام لحاء نبات البردي (Papyrus)، وهي كلمة اشتقت منها كلمة (Paper). كما انتشر استعمال البردي في مصر القديمة ثم في اليونان وإيطاليا، وبقي ورق البردي طوال قرون عديدة الوسيلة الوحيدة للكتابة.
بعد ذلك ازدادت أهمية الكتابة، وأصبحت الحاجة اليها ملحة؛ نظراً لتطور الحياة المدنية، وظهور الأنظمة الخاصة بكل دولة، الأمر الذي دفع بالانسان الى البحث عن طريقة تكون أضمن وأسهل في عملية التدوين، فكان نتيجته ابتكار طريقة جديدة للكتابة باستخدام جلود الحيوانات التي كان الانسان القديم يقتات عليها، إذ تعتبر مهنة الصيد الوحيدة التي تمثل المصدر الرئيسي لحياته آنذاك.
وقد استعمل المصريون والآشوريون والفرس جلود الماشية للكتابة، ولم يكن هذا الاستعمال مجهولاً لدى الإغريق، ويعرف هذا النوع بـ(الرق).
والرق في اللغة: هو ما رقّ من الجلد الخام، نتيجة دباغته بعد إزالة الطبقة الدهنية الداخلية، والطبقة الخارجية الحاوية على بصيلات الشعر، وسحبه على اطار من الخشب. ومما ساعد على انتشار الرق إمكانية الكتابة على الوجهين والكشط، ولم يكن هذا متوفراً من قبل في ورق البردي، وقد شاع هذا الإجراء خاصة في العصور الوسطى عندما ارتفع سعر الجلود، ولم ترتبط صناعة الرق بدولة معينة.
كما كان الرق في البداية مقتصرًا على الرسائل والوثائق والمذكرات الموجزة، وبمرور الزمنِ استُخدم في صناعة الكتب.

تنقسم عملية استخدام الرق عبر التاريخ الى مرحلتين هما:
المرحلة الأولى: يرى المؤرخون أن ارتباط صناعة الرق يرتبط بالديانة المسيحية؛ وذلك حينما اتخذت الامبراطورية الرومانية المسيحية ديانة رسمية لها، فأصبحت الحاجة الى وسيلة تواصل ضرورية في المجتمع آنذاك، بالإضافة الى السهولة في الاستخدام، فقد كان من اليسير طيّ جلود الرق بنفس طريقة البردي، ولكنها كانت على شكل لفافات تحاكي كتب البردي، ويأتي طول اللفافة تبعا لطول جلود الحيوانات المستخرجة منها، وإن كان بالإمكان توصيل أو حياكة عدة أجزاء معاً.
المرحلة الثانية: تعتبر المرحلة التي أصبحت فيها الكتب المصنوعة من الرق على شكل كراس، مرحلة اكثر تطورا من سابقتها، على الرغم من اعتياد القدماء استعمال الكتب المطوية، فإن هذا الكتاب كان له مساوئ خاصة من ناحية التداول اليومي...
وبالتطور التدريجي، تم جعل استخدام الرق بالشكل الذي كانت عليه الألواح، وقد تحقق هذا في عهد الإمبراطورية الرومانية أيضاً، مما أدى الى حدوث تطور في شكل الكراس، وظلت دفاتر الرق هي صورة الكتاب المألوفة حتى القرن الخامس عشر الذي شهد عملية تحول للورق.
لقد تطور استخدام الرق في الكتابة في العصور اللاحقة، وأصبح جزءاً أساسياً من عملية التداول، مما أدى بالإنسان الى أن يهتم بهذا الجانب، وتطويره، وفعلا تم ذلك، وأصبح للرق أنواع عدة: وهي الرق الحيواني الذي يصنع من جلود الأغنام والماعز والعجول... وقد ظل الناس يستخدمونه للكتابة منذ أمد بعيد.
وقد جاء ذكر الرق في قوله تعالى: (وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنشُورٍ(3)) (سورة الطور)، والمقصود من الرق هنا صحائف عمل ابن آدم.
والنوع الثاني هو الرق النفيس، وهو نوع ناعم من الرق، يصنع من جلود الحملان والماعز أو العجول الصغيرة. ويستعمل هذا النوع الفاخر من الرق في كتابة المخطوطات المهمة مثل: المواثيق والشهادات الجامعية والوصايا. أما النوع الأخير من الرق هو الرقاق السميكة، وتُصنع من جلود الحمير والماعز، وتستخدم كجلود للطبول ايضا.
أخذت الكتابة باستخدام الرق مساحة تاريخية كبيرة، إذ تعتبر الارهاصة الاولى في عملية التدوين والكتابة منذ آلاف السنين، خاصة مع تطور الحياة وزيادة الاكتشافات التي ألهم الله سبحانه وتعالى بها البشر، والتي أدت إلى خدمة الانسانية الى وقتنا الحاضر...
والمتتبع لمراحل تطور استخدام الرق، يرى أنه لم يكن مستعملاً في عملية الكتابة، فبعد أن كان اكتشافه في عهد الامبراطورية الرومانية، أصبح في ما بعد معروفاً ومألوفاً في المدن القديمة لآسيا الصغرى، اذ استخدمه الفرس وغيرهم من الشعوب القديمة في تدوين الكتب المقدسة والآداب والفنون...
ومنذ بداية عام (200 ق . م)، حل الرق تدريجياً محل ورق البري؛ باعتباره الأكثر استعمالا وشيوعاً في الكتابة، وظل هذا الرق المادة الأولى للكتابة في الغرب، إلى أن أدخل إليه الورق النباتي المصنوع في الشرق الأوسط في القرن الثالث عشر الميلادي، ليحل محل الرق، في الوقت الذي ازدهرت فيه الطباعة في أوروبا في أوائل القرن الخامس عشر، وبالرغم من ذلك، لا يزال ورق الرق يُستعمل في العصر الحديث لتدوين المخطوطات المهمة.
ويشهد العالم في الوقت الحاضر قفزة نوعية في مختلف مجالات الحياة؛ نتيجة التكنولوجيا الحديثة والتطورات الهائلة، ولكن هذا التطور الذي نلاحظه لم يهمل الخطوات الاولى التي سعى اليها الانسان منذ العصور الأولى، والتي أراد بها ان تكون في خدمة البشرية جمعاء، وتسيير امورها المهمة.
ومن تلك الأمور صناعة واستخدام (الرق)، فهو اليوم يعد مادة أساسية في عملية ترميم وتدوين المخطوطات التاريخية المهمة التي تعرضت الى التلف بفعل ظروف معينة: كالإهمال، وعدم الخزن بشكل صحيح.
إن هذه العملية تحتاج الى جهود كبيرة لمعرف أدق تفاصيلها، وهذا لا يوجد إلا من خلال المثابرة، وبذل الجهود المضاعفة، والتواصل مع كل ما يمس هذا الجانب المهم الذي يهدف الى احياء التراث الأممي.
ولعل التراث الشيعي المتمثل بعلوم أهل البيت عليهم السلام من أهم ما عرفه الفكر عبر الأزمان؛ لما فيه من امور تخدم البشرية جمعاء باختلاف توجهاتها؛ لذلك سعت الامانة العامة للعتبة العباسية المقدسة - وانطلاقا من الواجب الملقى على عاتقها بتسخير امكانياتها لأجل المحافظة على هذا التراث المقدس - إلى تأسيس مركز خاص لترميم المخطوطات، يكون له دور كبير باستخدام كل الوسائل الحديثة في مجال ترميم وحفظ المخطوطات النفيسة، اذ تعتبر عملية صناعة الرق من ابرز ما يقوم به كادر هذا المركز...
ولمعرفة تفاصيل أكثر عن هذه الصناعة العريقة، كان لصدى الروضتين هذا اللقاء مع مدير مركز ترميم المخطوطات التابع لمكتبة ودار مخطوطات العتبة العباسية المقدسة الأستاذ (علي عبد المحسن عبادة) ليتحدث عن مراحل صناعة هذه المادة، فبين قائلاً:
تتم عملية صناعة الرق بتهيئة جلود الحيوانات التي يراد صناعته منها، بعد ذلك تتم المباشرة بعملية صناعته، والتي تبدأ بعملية غمر الجلد الحيواني بالماء؛ وذلك للتخلص من الاملاح الموجودة فيه، ولكي يكتسب بعض المرونة... وبعد الانتهاء، يتم تهيئة محلول من مركب (CaOH) يتم وضع الجلد الحيواني فيه لفترة معينة، وفائدة هذه العملية هي إزالة الشعر أو الصوف أو الوبر الموجود على سطح الجلد، حيث تستغرق هذه العملية من أسبوع الى ثلاثة اسابيع، والأفضل في هذه العملية أن يكون الجلد مغموراً بالكامل في هذا المحلول، ويتم وضع الشعر للأسفل في الحوض، بعدها تؤخذ قطعة من شعر أو صوف أو وبر الجلد وإزالتها باليد، فإذا أزيلت بسهولة، فأن العملية قد انتهت، وإذا وجد انه لا يمكن ازالته بسهولة، يترك مدة اخرى، هذا بالإضافة الى التأكد من ازالة الطبقة الدهنية الموجودة على سطح الجلد، اذ يشترط في اكتمال تنظيف الجلد أن تزول هذه المادة بسهولة.
كما يجب تحريك المحلول بين فترة وأخرى، وبعد الانتهاء من هذه العملية تأتي عملية ازالة الشعر أو الصوف أو الوبر، وتتم بواسطة طاولة مخصصة باستخدام سكاكين ثنائية الاتجاه. وبعد عملية ازالة الشعر، وتنظيف الجلد بالكامل، ينشر بعدها على اطار خاص، وفي هذه العملية سوف تكون الألياف باتجاه واحد.
ومن الجدير بالذكر أن أفضل أنواع الرق هي المستخرجة من جلود الخراف، لتصل مرحلة صناعة الرق الى عملية القشط الداخلي (الجهة الداخلية للجلد)، وهي إزالة جميع الألياف والدهون من الجلد.
ثم تبدأ عملية القشط الخارجي والحك الجيد من الجهة الخارجية، ويوصى بأن يكون الجلد مشدوداً (أي يتم سحبه من كل الاتجاهات وبنفس القوة)، وكلما ارتخى في عملية القشط، نقوم بشده من الأطراف، ثم بعد ذلك يترك ليجف في جو الغرفة وبدون أشعة الشمس، ويمر من خلاله تيار هوائي، ويبقى لمدة أسبوع أو أكثر على هذه الحالة لينشف تماما.
بعد الانتهاء من هذه العملية، يستخدم حجر الحمام الابيض لتنعيم الجلد من الجهتين وبشكل جيد، حتى نحصل على النعومة والشكل المطلوبين، بعد ذلك يكون الرق جاهزا للاستخدام، إما في تصحيف المخطوطات، حيث يكون التنعيم من جهة واحدة, أو في الكتابة بعد معاملته بمواد خاصة، تساعد على عدم انتشار حبر الكتابة على الرق.