‏ من مرافئ زيارة الأربعين..

30-12-2018
علي حسين الخباز ‏
‏ من مرافئ زيارة الأربعين.. (1)‏
علي حسين الخباز ‏
سؤال يكبر في خاطري: هل أعطى الشعراء والأدباء والكتاب ومثقفو ومفكرو العالم تجربة زيارة الأربعين حقها، وخاصة أننا نؤمن ‏بأن هذه الشعيرة تتنامى مع كل جيل، وتأخذ من بنية العصر سماتها الظاهرية، وتستمد من التأريخ حيويتها ومعناها وجوهر انتمائها.‏
‏ هل استطعنا أن ننقل الى العالم هذه الظاهرة العراقية الوطنية الانسانية، وهي ظاهرة فريدة بما تمتلك من جماهيرية كونية، تجتاز ‏معايير حدودها الجغرافية وقوميتها.. كربلاء لها حدود معنوية أكبر، وهذا ما يميزها عن جميع الاحتفاءات العالمية، هي تجربة ممتعة ‏ونافعة أن نجوب في تجارب وعقول المفكرين والأدباء، لنعرف كيف تقرأ زيارة الاربعين في كربلاء، رغم اختلاف اعمار هذه ‏التجارب وانتماءاتها واهتماماتها وكل ينطلق من موقفه وقناعاته.‏
‏ ويرى الأستاذ كامل الفهداوي وهو أحد الشيوخ الافاضل وعلامة من علامات علماء ابناء العامة الافاضل، ان للأماكن خصوصية كما ‏يفهم من كتاب الله تعالى ومنها وجود نبي او اثاره ونجد ذلك بقوله تعالى: ((لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ {1} وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ)) (البلد: 2)، ‏وهنا يقسم سبحانه بمكة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ولد وحل فيها، وكذلك: ((وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى...)) ‏‏(البقرة/125)؛ اعتزازاً بأثر سيدنا ابراهيم عليه السلام . ‏
‏ ولقد اختار الله تعالى لأهل بيت نبيه في كتابه لفظة الطهر: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيرًا)) ‏‏(الأحزاب/33)، دلالة على طهارة معدنهم واخلاقهم.. لكن هذا العالم الجليل يوقفنا باندهاشته الكبيرة أمام تصريح الدواعش بعد احتلال ‏الموصل، يتوعدون بالقدوم الى كربلاء والنجف، ويكيلون لها افضح الموبقات من التسميات الرذيلة التي تمثل جوهرهم، ولا تمثل ‏كربلاء ولا النجف..!‏
‏ هنا كبر السؤال لماذا؟ ونحن ايضا نتساءل: ألا يمكن أن تكون قداسة ابن بنت رسول الله قادرة على توحيدنا؟ ألا يمكن أن تكون ‏كربلاء العراق هي كربلاء العالم؟ ماذا لو سلبت أي دولة اجنبية من العراقيين فخر الاحتفاء بسيد الشهداء؟ يكون الأمر ثقيلاً على كل ‏عراقي دون النظر الى انتمائه الديني والمذهبي.‏
‏ فوجد هذا العالم الجليل كامل الفهداوي، أن عظمة كربلاء تترسخ في مدفن سيد شباب اهل الجنة، وحاشا لله ان يكون مستقر الطاهرين ‏إلا في ارض طاهرة.. توصل الى طهارة المكان لاقتران مدفن الطهر، فهو يقول:ـ فقلت سبحان الله هؤلاء احفاد أولئك الذين قتلوا ‏ريحانة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يوم أن قال لهم: هل هناك من جده نبي على الارض غيري؟
‏ لكن قلوبهم كانت غلفاً، وأعينهم كانت عمياً، وآذانهم صماً، فتركوا كل هذا وأقدموا على قتله وحرق خيامه وقتل اصحابه وسبي ‏نسائه.. ماذا لو عرف العالم القيمة الحقيقية لمعنى الزيارة الاربعينية، وأنا أعتقد ان قلق الدواعش من كربلاء هو طبيعة الاثر المرسوم ‏في قلوب الناس، والذي يمكن ان يجمع كلمة المسلمين ويوحدها.‏
‏ يرى الشيخ كامل الفهداوي:ـ انهم يخشون كربلاء؛ لأن الناس من محبتهم لابن رسول الله يزورونه ويعظمونه، فظن المجرمون ان ‏ذلك شرك.. لكن رسول الله يوم أن خرج من مكة نظر اليها، وقال: "انك لأحب بقاع الارض إليّ"، مع انها لم تشمل بكرامة الاسلام ‏بعد.‏
‏ ونحن نرى ان النبي صلى الله عليه واله وسلم عندما قال ذلك، لم ينظر الى قداستها في محور وجود العبادة أولاً، لكنه نظر الى ‏ارتباطها السماوي الى قداستها من حيث مقدرتها على استنهاض الامة الى الصلاح والى اليقين.‏
‏ الشيخ الفهداوي يرى ان على كل مسلم ان يزور سيدنا الحسين عليه السلام ويحمد الله ان يسر له الوصول لسيد شباب اهل الجنة، ‏ويعلن ولاءه له وبراءته من الدواعش والعصابات التكفيرية وافكارهم. ‏
‏ ننتقل بهذه المحاور الفكرية الى الاستاذ غني المعمار وهو احد ادباء محافظة واسط، وهو الاقرب لمشاهدات الطريق، والأقرب الى ‏روح هذه الضيافة التي جعلته يرفق الشكر تقديراً لأهالي محافظته.. البيوت الممتدة من زرباطية وحتى شارع بغداد العام الموصِل الى ‏كربلاء عن طريق الشوملي مروراً ووقوفاً عند مدينة الكوت، واشتهرت قضية التباري العفوي المزدان بكرم الضيافة لاستقبال ‏‏(المشاية) زوار ابي عبد الله الحسين والذين قدر دخولهم يوميا بـ30 ألف زائر وعلى مدار ايام الزيارة.‏
‏ العدد هو الذي اذهل العالم هو فقط من منفذ واحد، وأما بقية المنافذ الاخرى فهم بركة كل زيارة اربعينية.. ولأنه مرفأ شاعر، فهو ‏الاقدر على معاينة ما يمر من تحديات الظروف المناخية والبيئية، وما حاول الاعداء زرعه من مخاوف عيونهم المحدقة صوب هذا ‏الولاء مع ما تعبره كلمات الشكر والامتنان من افواه الزائرين.‏
‏ لنقف عند حدود هذا التحدي وكرم الضيافة العراقية وهوية هذا الانتماء الوطني الانساني الذي يصل كنتيجة عند الشاعر غني العمار ‏الى ان الحسين عليه السلام يجمعنا وهذا ما صرَّحت به الحوراء العقيلة في قصر الطاغية يزيد (لعنه تعالى): "فوالله لن تميتَ وحينا ‏ولن تمحو ذِكرنا".‏
‏ الملايين المتجهة الى كعبة الاحرار كربلاء وقُبَّة سيد الأحرار وشهيد الله الحسين عليه السلام ، رسالةٌ واضحة المعاني وكبيرة ‏الحرف والعنوان خطتها يدُ أبناء علي والحسين عليهما السلام الى كلِ مَن يرومُ هدم الإسلام الحق، فيبعث الشاعر غني العمار ‏اشواقه مع الزوار: "سلامٌ عليكَ سيدي من مكاني، فقد توجه الأهل والأبناء إليكَ ورجوتهم رجاءَ شاعرٍ معاق أثناه العكاز والمرض عن ‏الوصول الى حضرتكَ المطهرة وقبركَ الترعة من ترع الجنَّة".‏
‏ ثقافة السير هي ثقافة امة ترهب أعداء الامة وأعداء العراق وأعداء المذهب بتعدادها، أما أفعال المشاية، فإن السير بحد ذاته يهذب ‏النفس ويطمئنها؛ لأن مغزى الزيارة أسمى من كل التخرصات.‏
‏ الناصبيون يضمرون الأحقاد ضد علي عليه السلام وأبنائه، والعراقيون يثبتون بكرم ضيافتهم انهم ابناء الحسين عليه السلام ، وكل ‏الزائرين هم ضيوف هذا البلد الامين العراق.‏
‏ نرى ان الذي يتحقق على الارض هو انعكاسة لما يتحقق في السماء، تشخيص له دلالاته وانعكاسته المعنوية على الكون كله، من ‏حيث القيمة والنتائج أي انصهار في بوتقة الحزن المبهج، قد تكون هذه القيمة غريبة على مسامع البعض لكنها في الواقع هي اسمى ‏مميزات الفرادة التي تتمتع بها هذه الزيارة المباركة: حزن، وبكاء، وتعب، سفر، وألم.. ومع هذا نجد هناك فرحاً غامراً يعتمر النفوس.‏
‏ سعادة المشاركة والانتماء الذي يمنح الانسان القدرة على الحضور، الكاتبة المبدعة (محبة رضا الحسيني) التي ترى ان مسيرة ‏الاربعين الحسيني وزيارة كربلاء هي تواصل روحي مع الامام الحسين عليه السلام ، وتكرارها كل عام يعني تجديداً لقبول القيم ‏السماوية النبيلة في اقامة العدل والمساواة ورفض الظلم والطواغيت.‏
‏ وما ارتفعت رسالة امامنا إلا بالقيم الانسانية الصالحة في كل زمان ومكان، ونرى ان قيم الاحتفاء بالمناسبة رغم ارتباطها بالماضي ‏كتاريخ يعرفنا بواقعة الطف المباركة والتي حدثت عام 61هـ لكنها تعد احتفاء بالمستقبل الذي يرتبط بالنهضة المهدوية المباركة، ‏وهذا نجده في استمرار عملية البذل التضحوي الذي يحمل هوية هؤلاء الابطال انفسهم في سبيل بقاء الصوت الحسين.‏
‏ وفي طريق (يا حسين) نجدهم من مختلف الجنسيات ومن بلدان شتى يأتون لتجديد العهد والبقاء على نهجه، واهم المعاني التي تسمو ‏في واقعة كل عام (المشاية) تحمل راية الوحدة الحقيقية، شارع الولاء الحسيني يزدحم بخطوات انصار الحسين بكل مستوياتهم ‏وأعمارهم، كذلك نجد خطوات الولاء الزينبي، نسوة تمشي وفي قلبوهن الايمان والأمان.‏
هن يتقربن الى اختصار الزمان للوصول الى 61 هـ لنصرة زينب عليها السلام ، ولا ننسى الصوت الزينبي الذي كان له دور كبير ‏في نجاح الثورة الحسينية، هذا المسير الولائي ترجم مقولة عقيلة الطالبيين عليها السلام ليزيد (لعنة الله عليه): "كد كيدك واسع ‏سعيك وناصب جهدك فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا".‏
‏ مقومات انسانية يحملها المسير الاربعيني قادرة على صياغة ذهنية تضحوية قادرة على امتشاقها في الملمات، وهذا ما حصل في ‏مقاومة هجوم الدواعش، اغلب المقاتلين اذا لم يكن جميعهم هم من ابناء المواكب الحسينية ومشاية الاربعين الحسيني، الميزة التي ‏اذهلت العالم ان هذه المسيرة المليونية لا تتبع لتنظيمات سياسية، وإنما تنصهر فيها كل العناوين، فلهذا هي منظمة تنظيما يخرجها من ‏الفوضى.‏
‏ يرى الكاتب الأستاذ (علي الأسدي) ان الزيارة المليونية لها مظهر انساني، سلمي، مدني، حضاري امام العالم، وهذا هو احد اهم ‏اسباب خلودها، ان مقومات نجاحها هي المشاركة الوجدانية مع العالم، في سنوات الحصار الفكري والروحي التي فرضتها انظمة ‏الخبل الطاغوتي، عمل على تصدير فكرة ربط المناسبة الاربعينية العظيمة بأنها طقس خاص من طقوس الشيعة.‏
‏ وبهذا العمل كان قد حصر المناسبة بجمهور مذهبي ومنعها من التواصل مع الفكر الانساني؛ كونه يخشاها ويخاف منها بما تمتاز من ‏روح وثابة للتواصل، منعمة بروح الانتماء الشمولي، بها ترى مشاهد الوئام الروحي.‏
ولقد عمل هذا المسير المليوني العالمي الى تعريف بهوية العراقيين الانسانين، فالعراقي الموكبي خدوم وتصل به الخدمة الى تصغير ‏نفسه وإذلالها امام الخشوع الاسمى لزائر يحمل سمات النصرة، والنتيجة ان تظهر مشاعر الإخاء والمحبة والوئام والتعايش وحب ‏الحياة والتضحية في سبيل الآخر.‏
‏ حالات ايجابية من العطاء والتفاني والتضحية والايثار والكرم والضيافة.. وبحالة من الصحة والعافية بعد ممارسة رياضة المشي ‏التي يوصي بها اطباء العصر.. وهذا يقربنا الى ظاهرة انتشار المستشفيات المتنقلة والعيادات الطوارئ وصيدليات الخيام والعربات ‏المتنقلة، مع وجود جهد شعبي للمعالجة العامة: كالتدليك والضمادات البسيطة، ومن الطبيعي مثل هذه المشاركة الوجدانية ستبعد عن ‏الانسان حالات القلق وضجيج الحياة، والانطلاق بسياحة فطرية في فضاءات الهواء الطلق، والانفصال الاختياري عن روتين العمل ‏اليومي والتغيير الايجابي للقاء الجديد من الوجوه المستبشرة.‏
‏ الشعور بالقوة في السير الجماعي نحو هدف أعلى في الحياة.. نحو القيم الشامخة.. نحو القمم الانسانية.. نحو الأنموذج.. نحو القدوة ‏الحسنة التي باتت نادرة في الحياة العامة، والحصول على فرصة للحوار مع الذات ومراجعة النفس في القضايا وتحديات الحياة ‏اليومية خلال ساعات السير الطويلة، نتعلم فن صناعة السعادة من امور بسيطة ودون تكاليف باهظة، ونشعر بالطمأنينة التي لم تأتِ ‏من امتلاك المال والثروة ما يثبت بأن ليس كل الأغنياء سعداء، ولا كل الفقراء تعساء، تعزيز الثقة بالنفس والقناعة بالإمكانيات الذاتية ‏وترشيد النفس الامارة بالسوء، الشعور الانساني المتأجج بالتنوع في بحر يموج بكتل بشرية متنوعة الاعراق والثقافات.. الشعور ‏بالعدالة الانسانية في فضاء لا يفرق بين الوزير والأجير، ولا يفاضل بين الأمير والفقير الى حد ما.‏
توفر فرصة ذهبية لإعادة النظر بمدى فهم الانسان لدوره المطلوب في حياته، نبذ العنف والارهاب من خلال الاندماج والانخراط في ‏صفوف لواء المحبة والتعايش وقبول الآخر.. والتفكير العلمي لا يخلو من النظر نحو روحية الفعل المبدع.‏
‏ يذهب بعض النقاد الى ان الشعائر الولائية اثر حيوي لابد للعلم ان يحتويها؛ كونها متنامية تتطور مع تطور الازمنة، عمل العلماء ‏اليوم توجه نحو دراسة كل شعيرة عبر مهرجانات ومسابقات ومؤتمرات وعمل متساوق للأعمار المتنوعة للطفولة والفتيان وللشباب ‏ضماناً ترسيخ التضج المعرفي وفتحنا افاق المستقبل، لابد في كل الاحوال استثمار هذا الظرف.‏
‏ يرى الكاتب (عبود الكرخي) أنها نسائم الرحمن والهداية التي بها يستنشق المؤمن عبق الإيمان وهي في ظل هذه الزيارة والتي بها ‏يتزود المؤمن الإيمان الروحي والمادي من خلال مسيرة الإيمان الخالدة إلى كعبة الأحرار وقبلة الإيمان في مسير نوراني لن يكتمل ‏إلا بالوصول إلى ضريح سيد الشهداء سيدي ومولاي أبي عبد الله الحسين عليه السلام .‏
‏ وهذا الاصرار على الوصول هو فعل التنامي الذي يجعل هذه المسيرة الخالدة مستمرة ولن تندثر بل تزداد ألقاً وبهاءً مهما طال ‏الزمان، وهي أحد المواضيع المهمة لظهور المهدي (عجل الله فرجه الشريف)، والممهدين لهذا الظهور المبارك والارتكاز على هذه ‏الزيارة الإيمانية هي أحد المرتكزات المهمة لظهور قائم آل محمد (عجل الله فرجه الشريف)، يدور الفكر المؤمن حول يقينية ارتباط هذه ‏المسيرات الولائية بحركة صاحب الامر بارك الله لنا بظهوره الشريف.‏
‏ أي مشروع انساني فاعل يصل الى مراحل النضج مطمئنا يصل الى متلقيه ولو من طبيعة التلقي المثقف ان يقلق حتى في المسائل ‏التي تصرف القلق عنها بقوة.. يرى الكاتب (نزيه ابو لحمة) الممارسة التقويمية لا تنتقص تلك المشاعر وانما تحاول ان تظهر قلقها ‏من استفحال بعض الظواهر التي تضاف الى حركة المسير، تحتاج لاستثمار المشاعر والعواطف الجياشة المفعمة بالوﻻء وتقويم ‏مسارها نحو هدفها المنشود لنصرة الحسين عليه السلام مبدأ ومنهجاً وسلوكاً شعوراً ﻻ شعارات موسمية تنتهي بانتهاء الموسم ‏الاربعيني، لنكون حسينيين وزينبيين بوقت واحد؛ لاستكمال ودوام المشروع النهضوي الآﻻمي؛ ﻷن الإسلام محمدي الوجود حسيني ‏البقاء.‏
‏ يرى الكاتب المغربي (إدريس هاني) أن الثورات تبلى وتفقد عمقها الإيديولوجي والروحي، بينما تستمر طراوة الثورة الحسينية ‏توحي بالكثير من المعانى والقيم الإنسانية والأمل والعدالة والسّلام ومناهضة الظّلم..! حدث يتمثله أطياف المجتمع بمختلف طبقاتهم ‏الثقافية ونزعاتهم الفكرية.‏
‏ لقد كانت ثورة كربلاء في أصلها التّاريخي تجري على أرض الواقع وتواجه منتهى التّعسف بقدر ما تتمثّل منتهى التحرر.. تهاوت ‏فيها هواجس الاستبداد إلى أسفل درك النزول، وارتقت فيها مهج التحرر إلى منتهى مدارج الكمال.‏
‏ إن الكاتب المبدع يريد ان يبعد هذه المناسبة عن المتحفية، بل اعتبرها نزعة انسانية واحساس وجداني عنوانه الحسين عليه السلام ، ‏إحساس لا تقدحه الذاكرة بل يستدعيه المستقبل، وهذا شأن النزعة الوجدانية تعبير دقيق امتد به ليصل الى (لازمكانية) النهضة، الى ‏تشخيص السيدة زينب عليها السلام : "لن تبلغ امدنا"، فمن الخطأ ان يقاس أي شيء من الامور النهضوية والتضحوية الحسينية ‏بمنهجة معاصرة؛ كونها لا تؤدي إلا البعد الحياتي القاصر عن مسايرة التأريخ.. قراءة بائسة ان نجلس نحن لنصحح للحسين عليه ‏السلام مساراته، أو أن نتابع تلك الروح التضحوية بمنطق حياتي عادي.‏
‏ تنامي الاثر الحسيني لا نسميه ندماً كجلد الذات، الشعوب تنامت مع حركة الحسين عليه السلام ، منهم من ثار كحركة سليمان بن ‏صرد والمختار.. الآن نصل الى تعبير جلد الذات هذه الممارسة التي حاول بعض المتعاطفين اعطاءها شرعية، يرى الكاتب ادريس ‏هاني ان جلد الذات، لا تعني أكثر من إحساس مضاعف بالذنب يعكس مكانة الشخص في الوجدان وقسوة الجريمة في التاريخ.‏
‏ نحن لا نعرف لغة جلد الذات المستوردة من اطياف الاديرة نحن نفكر بنصرة الذات عبر المواساة مع معاناة اهل البيت عليهم السلام ‏، عبرة الالتحام الوجداني، بعيدا عن التكلف والنفاق، المسيرة الاربعينية تبعد تهوين الحدث، وإسقاط رهان الاعداء الذي وصل حد ‏الاحتفاء بمقتل الحسين عليه السلام باعتباره عيدا في بعض البلدان العربية والإسلامية.‏
‏ المسيرة الاربعينية عمل جماهيري يقف ضد أي تشويه صوري او معنوي الجماهير تريد استحضار المأساة بشحنتها الحقيقية، تريد ‏هذه المشاية ايصال رسالتها الانسانية الى الاجيال بأمانة.‏
‏ يرى الاستاذ (واثق الجابري) ان هذا الحشد المليوني هو حضور متميز لنصرة الحسين عليه السلام كل عام، وتحدي شعبي ‏جريء، يرى ان البعض ان ذكر القضية الحسينية يصنع الفرقة ويفرق الهويات، فمن غير هذا الحسين العظيم والذي استمد عظمته ‏من رحمة رب العالمين، في اربعينيته الشامخة يجمع هذه الملايين على اختلاف لغاتهم وهوياتهم وأممهم التي احصوا عددها في ‏الارض، فمن يحصي مشايته في السماء؟ ‏
‏ هذا المسير الاربعيني الذي علم العالم دروساً من التفاني والعمل الطوعي وأوغر في صدر اهل السخرة وحشود الزيف، وجعلهم ‏يخشون مستقبلهم، لذلك تراهم مع كل مسير اربعيني تتحشد الاقلام واعلام الفضائيات ويزداد اهل التفلسف لتفريغ القضية من مهمتهما ‏الاساسية جمع الامة على الخير لتنتفض على طغاتها، ترعبهم مشاهد كأربعينية مباركة، حيث الكرم والخدمة وتقديم ما لذ وطاب ‏تعبير عن قيم لا مثيل لها بالعالم، وفرق طبابة وسيارات نقل وإغاثة، وصور للشهداء ومشاهد بطولات ورسومات ومحاضرات ‏ونصائح شرعية، وقلوب مفتوحة بالحب والإنسانية والخُلق.‏
لا احد يعلم فعلا كيف تتجمع تلك الملايين وكيف تنطلق، وكيف توفر كربلاء مبيتا لعشرين مليون زائر ومن يطعم هذه الملايين؟ ‏وكيف، وأكثر من 20 يوماً من المسير من كل بقاع العالم الى حيث قبلة الثوار والأحرار، والخدمة الكبيرة التي يتصاغر فاعليها أمام ‏جلالة سيدهم وقائدهم الإمام الحسين عليه السلام ، وأي شعب عظيم انتهل من هذا الفكر ليستضيف ملايين من أكثر من 80 دولة، ‏ويُعلمهم الخدمة والصبر والتفاني؛ وفكر ينجب أجيالاً لا تتراجع عن مبادئها وشرفها وكرامتها، فأي رسالة إنسانية حملها الحسين ‏العظيم؛ لكي يقنع ملايين بعد مئات السنين برسالته الإنسانية..؟!‏
هناك سؤال في البال:ـ ما الذي نحتاجه لإنتاج ملحمة بحجم ملحمة كربلاء.. بالتأكيد ان اولى احتياجاتنا ستكون التقوى والمعرفة ‏المنتجة للوعي، والذي بدوره يمنحنا الشجاعة والموقف الصبور، يرى (حسين علي الشامي) ان الولاء الذي يوحد التواريخ والأمكنة ‏في موقف واحد ويجعل الشعائر مصدر الهام، قادر على انتاج وعي مدرك مثقف للنصرة في كل الازمنة.‏
‏ بقيت في جوهر القضية اسئلة كثيرة تملأ الخافقين؛ لأن لكل زمان قراءاته ووعيه، فقد تكون قراءات الجيل الذي سبقنا للواقعة تختلف ‏عن قراءاتها لكربلاء وطف كربلاء الحسين ومن المؤكد ان الجيل الذي سيأتي بعدنا له قراءاته ايضاً.. فالسؤال الذي يستحضرنا هو ‏لو -لا سمح الله- واعطى الحسين عليه السلام البيعة ليزيد (لعنه الله) هل كانت تنتهي المشكلة؟
‏ يرى الكاتب (مصطفى العسكري) ان الحسين عليه السلام كان مدركا للقضية بحذافيرها حين اطلق حكمته: (مثلي لا يبايع مثله)، ‏وكان للكاتب المبدع (وليد كريم الناصري) وقفة مع زيارة الاربعين المباركة التي وحدت جميع المسميات بين مصطلحين اما زائر او ‏خادم خرج الجميع من دائرة التحزبات الى الانتماء.‏
‏ ويرى هذا الكاتب الجريء ان هناك بعض السرادق الخدمية لازالت تحتفظ بمسمياتها السياسية في دعوة للانصهار تحت جوهر معنى ‏النصرة ومعنى زيارة الاربعين المباركة، استغرب في احايين كثيرة عندما ارى الفضائيات تسلط الضوء في برامجها الاخبارية على ‏تجمعات شعبية ومارثونات واحيانا تجمعات لرمي والتراشق بالطماطة ومصارعة الثيران العالمية او مسابقات جري ورياضة.. ‏واهمال ماراثون يقام في كربلاء يتسابقون فيه على الاجر والثواب..؟
‏ ويرى الكاتب (كريم الانصاري) ان هناك اصواتاً خارج السرب تصيح مستهدفة الشعائر الحسينية خصوصاً والطقوس الدينية ‏عموماً.. لدواعي وأسباب مختلفة لا يخلو بعضها من الحسد والغيظ والخشية والإحباط تارةً، ومن قصر النظر والجهل والشذوذ ‏وحساب الأرقام والنقاط تارةً أُخرى.‏
‏ ويرى أنّ عملية البناء تبدأ إنسانيةً أولاً، بل لا بناء أبداً بدون بناء الإنسان من الذات إلى الذات في الذات، ثم تحلّق عملية البناء منتجةً ‏فاعلةً في دنيا الحياة وما لها من الضرورات والاحتياجات .‏

‏ ‏